الكويتي صلاح دبشة يطارد الشعر

  • 12/5/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

محمد الأسعد حتى الآن أصدر الشاعر الكويتي صلاح دبشة أربع مجموعات شعرية، وحين قرأتها للمرة الأولى، ثم للمرة الثانية، وحتى وأنا أضعها أمامي الآن، خيل لي أنه يغيب وراء كلماته، لا يستقر على حال، أو لا يرسم نفسه كما يتوقع القارئ، بل يترك من نفسه ضربات فرشاة موزعة على عدة جدران ومقاعد وسماوات. لو افترضنا أن الشعراء مطالبون برسم أنفسهم، بتحديد ما يرون ويشعرون به، وأعطينا كل واحد منهم قماشة ذات بعدين ليرسم عليها، سنجد لدينا العشرات بل المئات المنهمكين برسم أنفسهم بتفاصيل لا تترك لدينا مجالاً للشك أننا أمام بشر اكتملوا أو رغبوا بالاكتمال، وبلا أخطاء من أي نوع، أي من دون حركة أو نقلة طائشة تأخذهم من قماش اللوحة إلى جدار مثلاً أو جذع شجرة. صلاح ليس من هذا النوع الشائع، الذي يقول لك في كل سطر وصفحة، ها أنا ذا، بل أجد أمامي شاعراً يوزع منذ البداية بعضاً منه على قماش لوحة، ثم يذهب إلى جدار وراءها، أو باب، ويواصل الرسم، هو موزع إذن لا تستطيع التقاط ملمح مكتمل له في هذه الزاوية أو تلك، لأنه، ببساطة، غير معني بتشكيل صورة كاملة لنفسه، فما بالك أن تكون على قماشة ذات بعدين. عليك إذاً، أن تذهب للبحث عن الشعر لا الشاعر. الشاعر هنا يودّ أن يكتب شعراً، أثراً ما لا تعلق له بشخصية الشاعر، صعوبة لا تدانيها صعوبة، ومهمة غير مفكر فيها أساساً في ثقافتنا الشعرية العربية بعامة والخليجية بخاصة، وقد لا يكون هو ذاته فكر فيها، إنه يشبه نحاتاً يقف بعيداً بعد أن انتهى من نحت منحوتته، منشغلاً بحديث آخر، أو ساهماً يتطلع إلى مكان ما خارج صالة العرض. مع هكذا شخص، سيشعر الناقد أو القارئ بالضيق، ولن يريحه القليلُ من الإيماء في هذه القصيدة أو تلك إلى شجن شخصي واضح الملامح، أو إلى ضحكة ساخرة لا يجيد إطلاقها إلا إنسان، أو ما يشبه الأشياء المألوفة في حديث الشعراء مثل حديث عن الأم أوالأب أو المرأة أو الأصدقاء أو المقهى أو الصحراء. يبدو لي أن هذا الشاعر إذا نظرت إلى منحوتاته / قصائده، قليل الاحتفال بهؤلاء الذين يتلامحون بين سطوره حتى وهو يبذل جهداً في تشكيل ملامحهم، ويخطر لي أن أقول: إن هذا دليل اقتصاد في العاطفة، أو دليل نأي بالنفس الحسّاسة عن الأعين الفضولية، إنه يسعى إلى إيجاد سلسلة مواقف أو أوضاع أو حتى تخيلات تثير عاطفة ما أحياناً أو مفارقة في أحيان أخرى. وبين العاطفة والمفارقة يصعب القبض على صورة واضحة مكتملة، لأن الشاعر ذاته لا يسعى إلى قول نفسه كما لاحظنا. لنبحث عن الشعر إذاً، كما أراد لنا في هذه القصيدة الافتتاحية التي لن تتكرر في المجموعات اللاحقة: ذلك الأصفر الباهت الذي لا يحب الشجر يختطف اللمسات الأخيرة من جسد امرأة ثم يصدم جو الرصيف وينهض كالوعل يجتاح نصف الحديث.. حسب العنوان، هذا هو الخريف، ولكنه ينقلنا إلى ظلال الكلمة، وسرعان ما ننسى كل مرادف تقليدي لها ولظلالها ونحن نواصل القراءة، فهذا الخريف لا ينتمي إلى موسم الشجر الأصفر والذبول، ولا إلى آخر العمر أو مطلع الشتاء، في كل سطر شيء مختلف عن المعتاد، شيء يسعى إلى ضوء، إلى شيء ما ينفلت من أسر حروف هذه الكلمة، الخريف، إلى اختراع ترابطات جديدة مع حفاظه على العنوان بين سطر وآخر. صاحبي قال مرة أن الخريف اشترى منه كومة رمل.. أو: مرة كنت أسأل شيخاً مسناً.. فقال: الخريف قديماً تنازل عن عرشه ونفوه على ناقة تركوه بلا بيت شعر ولاقربة، للذئاب هذه أخبار عن هذا الذي يبدو مرة بضحكة ثور ونهضة وعل، ومرة على هيئة من يدخل من الباب وينثر بصماته، ومرة، كما يقول المساء في الختام، على هيئة من يفتش عن سيفه، هذا الخريف الطريد والمطارد ليس خريفاً عادياً، بل هو شيء يجتاح الأشياء انتقاماً ربما من جرح قديم، أو هو كما في ختام القصيدة: لعنة القدماء التي حُرّفت الهواء الذي شمّ آثامنا أو شيء ثالث معلق يكتبه الشاعر على شكل نقط متتالية .................. ولا يفصح، ربما لأن لا شيء مما قبض عليه من ملامح يكفي لاصطياد هذا الهارب من التسمية، هو شيء معلق، منفي ومطرود، لا تصفه كلمة صاحب ولا جواب شيخ ولا حفيف مساء وإن حاول كل هؤلاء المخبرين لمس طرف من أطراف حياته وردائه. هذا البحث عما لا يمكن تسميته، عن التائه بلا تسمية ولا جنسية، والوقوف على الحافة دونه، يثير القلق أكثر مما يثير الاطمئنان، هنا انتقال من المعجم بلا عودة رغم أن لا كلمة إلا ولها نسب بالمعجم. وهنا رسم في الفضاء رغم أن صور الأشياء كلها هي مما يحتل حيزاً، وستكون هذه النزعة التي أسميها نزعة شعرية سمة ملازمة منذ الآن فصاعداً، أينما تتابعت السطور، وحطت العناوين. أخذتُ من هذه القصيدة الافتتاحية سطوراً، أعدتُ تشكيلها، أسقطتُ منها بعض السطور، هي ليست كذلك في الأصل، هناك سطور أخرى شعرتُ منذ البداية أنها زائدة، أشبه بتجاويف أو نتوءات أهمل النحات إزالتها، أو نسي الرسام وجودها، ولكن القصيدة تشير مع ذلك إلى الأساس، إلى كيان عضوي تخفيه عن العين الخبيرة تراكمات لفظية لا تضيف بقدر ما تقلل. أو بعبارة أخرى بحثت عن الشعري في هذا الكلام الموزع بين رغبة في القص ورغبة في الومض، غير متوهم أن عروقاً في هذا المنجم قد لا تقود إلى مكمن معدن ثمين، وأن أخرى جديرة بالمتابعة، أتحدث هنا كقارئ وجد شاعراً تغيبه الكلمات أكثر مما تظهره، وبين هذا السطر وذاك تأتي كلمات لا جدوى منها لأنها لا تصور ولا ترسم، وغالباً ما تكون شرحاً وتعليقاً يشتتان الضوء بدلاً من تركيزه: تطرقُ كالغصن العاري وشذوذُ الضوء يراقب ما يتساقط من صمتك أو: تتشرد فيكَ قرنفلة تنفجر الهاء أو: والحبر تشبث بالأسطر حتى إسفاف آخر والضاد تنوء دموع جدار ورماد بنفسج أستطيع هنا إزاحة كل ما لا يشكل عنصراً تشكيلياً، بصرياً أو حسياً، من بين السطور؛ أزيح جانباً كلمة شذوذ التي تفقد الضوء ثقله البصري وتجفف إلى حد فاحش أنسنة الغصن العاري المطرق والصمت المتساقط، وأزيح الهاء التي تجعل من القرنفلة الشريدة تجريداً لا معنى له، وأستطيع محو إسفاف آخر والضاد لأكتشف العناصر الجوهرية: الحبر المتشبث بالأسطر ودموع جدار ورماد بنفسج، وكلها عناصر لا تتلاصق أو أنها عناصر لم تلحمها كلمة إسفاف ولم تقارب بينها كلمة الضاد. هاهنا حطام فشل أن ينهض في تكوين. قد يكون لهذا النوع من مراكمة الكلام مغزى نفسي لدى الشاعر، وقد يجد له مبرراً، إلا أننا هنا في حضرة شيء آخر انفلت من الرغبة الداخلية والقصدية التي لا يعرف عنها القارئ شيئاً وليس شرطاً أن يعرف، نحن هنا بصدد البحث عن الشعر. وحسب ما توحي به هذه التجربة في الكتابة؛ يقع الشعر خارج صورة الشاعر الشخصية، هكذا أراد لنا أن ننظر وهناك أراد لنا أن نبحث. * * * الومضة هي الشعر كله، أي أن ما ندعوه شعراً يتجوهر في سطر أو سطرين، ومع أن رغبة القص توهم أحياناً أنها رحلة وامضة، إلا أننا نتسقط منذ عصر طويل اللمعة والشرارة، ونتسامح مع الزند فقط لأن ما يسقط منه هو الغاية. يقول بعض النقاد: إن أي لحظة شعرية تبدأ بهذه الومضة، أما ما يأتي بعد ذلك فهو توسيع لها، تكبير ربما، أو رجرجة، أنا أقول عكس ذلك؛ يبدأ الشعر بالوهج الذي لا يحد في النفس والشعور، ثم يبدأ بالتبلّر في جسد ماسة صغيرة، وأجد في ميل الشاعر هنا نحو بلورة ما يرى في سطور قليلة لم يفارقه منذ المجموعة الأولى وحتى الأخيرة، تستوقفني هذه الومضات الشعرية القليلة في مجموعة نحوكِ الآن.. كأني: ويشعّ بلا امرأة في هذا الصمت أو: تلم المسافة أثوابها كالصدى أو: قليل الهوى نتجاذب فيه البساتين أو: ندى للضلوع الطريدة وجه لهذا الأسى هذه قصائد مكتملة، بمعنى أن ما سبقها وما جاء بعدها يمكن الاستغناء عنه بلا أسف، هذه رؤية خاصة بي بالطبع، ولكنها مجرد اقتراح لإثراء صفحات عديدة بيضاء وإن اصطفت فيها كلمات بكامل معانيها النحوية والدلالية، منطق النحو وحده، ومنطق الدلالة وحده، لا ينتميان إلى الشعر أو الحديث عنه، بل إلى دراسات ألسنية أو فقه اللغة أو ما شابه، لهذا السبب استبعدتُ المفارقات الذهنية المثيرة للدهشة والعجب في مجموعات صلاح، ولسبب آخر، إنها لا توقظ إحساساً قويا بالحياة. أفترض، وهذا اقتراح مني أيضاً، إن كل ما لا يوقظ فينا إحساساً بما هو حيّ، لن يتجاوز الورقة التي كتب عليها. ولأنني مشغول بهذا الاشتباك بيني وبين كلمات الشاعر، تدهشني هذه السطور مثلاً في مجموعة مظاهرة شخصية: أقدامنا المنهكة لماذا لا نحترمها ونضعها فوق رؤسنا؟ أو: يسمونه الكلب رغم أنه لم ينبح في حياته إلا مرّة عندما كان النباح المنطق الوحيد للتعبير عن الإنسانية الأمر ليس أن إنساناً يضع قدميه على رأسه هو من صور ألعاب الحواة وتمارين لاعبي السيرك، وليس أن هذا الكلب المسكين جعل الشاعر نباحه منطقاً وحيداً للتعبير عن إخوته البشر، بل هو في ابتكار حس بالمفارقة طابعه ذهني مجرد لم يرتسم بصرياً، أي لا يمكن لمس العاطفة التي يحاول الوصول إليها، لهذا الكلام أنصار كثيرون، وأصبح في السنوات الأخيرة شبه قالب يعيد فيه شعراء صب مفارقاتهم الفكهة أو الكئيبة أحياناً في مجموعات تصدر في منطقة الخليج بخاصة، ولكنني أجده أدنى قيمة حتى من الرسوم الكاريكاتورية التي يستلهمها. ويتواصل الاقتصاد، أو ما سميته التبلّر، وهذا اتجاه أمتدحه ولكنني أتبين مخاطره، يبدو أحياناً وكأنه يغوي الشاعر، فيغريه بتذهين أثمن اللحظات إلى درجة إضاعة فرصة تشغيل الحواس إلا حاسة وحيدة هي التفكير، وأرى أن هذا يفقد بلورات حقيقية يقبض عليها الملمس والشعور، وفرصة الاشتباك معي، أعني مغادرة الورقة إلى أحاسيسي أنا القارئ البدائي حتى الآن فيما يتعلق بالشعر، فأنا لا أزال أتخيل الشعر طريدة برّية يكمن لها الشاعر والقارئ في طرقات غابة أو عند مسيل ماء في صحراء، وإني لأعجب كيف لا يكتشف من تملأ مفردات الصحراء والفضاء والهواء المدوم مساحات لا بأس بها من قصائده هذه الشهوة في القبض على الطرائد، فيترك لألعاب المفارقات الذهنية أن تتلاعب به. * * * لا شيء يمكن اختتامه مع المجموعة الرابعة المسماة سيد الأجنحة، فلا الفضاء يتوقف عن الانفتاح، ولا الطرقات وشعابها تتوقف عن المجيء والذهاب، ولكن ها هنا شيء مختلف عن صور الماضي، فالشاعر يجد ملامح قريبة من نفسه في هذا المطيور، أو هذا النقوشي، ويتلقط أشياء من ملامح تحولاته أمام امرأة تظل غائمة كما كانت في عصر المقهى والصحراء وخيالات القوافل والوعول. المطيور، أي الممسوس برغبة الطيران والثرثرة كما أظن، والنقوشي المصاب بنزعة أن يسدد على أي شيء يصادفه بلا غاية، وهما لفظتان خليجيتان مما هو دارج، تستولي عليه حالة شبيهة بحالة ذلك الأسطوري الساذج المسمى مجنون ليلى في الصحراء. ليلى لا تظهر هنا كثيراً، لا تتحرك، لا تشف، لأنها مجرد شرارة في الطفولة ربما أطلقت المطيور الذي يواصل تخبطه بين الجدران والجذوع وعلى الأبواب وأمام النوافذ، وتحت سماء شاسعة محيرة، يكتفي لها ومنها بهذه السطور: يا بنت يا حلوة يا مزيلة العالم عن روحي وأنت تلوحين من بعيد تأخذين كل ما اشتهيته من سماء وما تمنيته من أجنحة في هذه المجموعة أيضاً لا أستطيع مغالبة رغبتي بمحو بعض السطور، وتكثيف الشظايا لأجعلها أكثر بروزاً وتأثيراً، الكثير أحياناً، بل وفي أحيان كثيرة، لا يعني الثراء، والقليل، القليل جداً، لا يعني الفقر والحاجة إلى الاكتمال.

مشاركة :