قد يحتار الإنسان في التعريف بنفسه، هل يعرّف نفسه حسب قدراته العقلية أم تطوره الحضاري أم حسب تاريخه أم حسب لونه وشكله وعرقه؟ هل هو كائن متفوق على الكائنات الأخرى؟ من الطبيعي أن نتجاهل هذا السؤال حين ننظر للتطور البشري الحضاري والإنجازات البشرية العلمية والتقنية والأدبية، لكن هذا السؤال قد يطفو على السطح حين يقف الإنسان عاجزا أمام التعامل مع فيروس صغير لا يرى بالعين المجردة، يحاول أن يفهم كيف ينشر هذا الفيروس وباء يعجز عن علاجه أو السيطرة على انتشاره مثلا، كما أن هذا الإنسان الذي يناقش نظريات فيزيائية معقدة ومعادلات رياضية صعبة تجده يعيش أحيانا حالة وهم أمام ساحر خفيف اليدين يقوم بعرض بسيط يخدعه بصرياً، او ينسى في لحظة كل ما تعلمه ويقع ضحية شخص يدعي انه يشفي أصعب الأمراض بواسطة خلطة سرية تكتشف بعد فترة أنها سامة او ضارة بالصحة. كما أنه قد ينجرف وراء إشاعة أو يقع ضحية تضليل إعلامي رغم توفر المعلومة من مصادر مختلفة. يشكل الإنسان معضلة يصعب فهمها أحيانا لكثرة تناقضها، فهو رغم ذكائه قد لا يستخدم هذا الذكاء كما يجب، ورغم تقدمه العلمي لا يزال يجهل الكثير، ورغم إدعائه التحضر تتلاشى إنسانيته أمام الطائفية والعنصرية. لا تستطيع أن تفسر الفرد كما أنك لا تستطيع أن تختصر البشر بجملة أو تعريف صغير. حين ظهرت الجينات على السطح بعد التعرف على الحمض النووي الوراثي كناقل للمادة الوراثية، بدأ التفسير "الجيني" أو الوراثي للإنسان، أصبح البعض يحصر الإنسان بمجموعة من الموروثات المسؤولة عن صفاته الشكلية وقابليته للإصابة ببعض الأمراض. التفسير الجيني أو الوراثي لكل ما هو بشري كان طاغيا في فترة من الفترات على أي نقاش علمي، فموروثاتك تصنع بروتينات الخلية، والبروتينات هذه لها وظائفها البنائية والبيولوجية. ومن خلال دراسة أمراض كثيرة تم معرفة دور هذه الموروثات ووظائف هذه البروتينات في الخلية. النقاش العلمي يأخذ صوراً كثيرة فلا يوجد إجابات قطعية وحاسمة في العلم، العلم متحرك ومتغير، لذلك يصعب تفسير الإنسان علميا من منظور واحد، وهنا تغير النقاش وبدأ الحديث عن التفاعل والتكامل بين الموروثات المختلفة وعن التفاعل البيئي الجيني، فالتفسير الأحادي لأي ظاهرة بما فيها الظاهرة البشرية لا يكفي. فمثلا بعض الامراض تنتج بسبب استعداد وراثي معين لكن البيئة على سبيل المثال، العادات الغذائية والصحية تلعب دورا مهما في ظهور المرض. وهنا تبدأ نقطة نقاش محورية مهمة عن دور البيئة المحيطة وعلاقتها بالاستعداد الوراثي أو الجيني.. وعن هذا نكمل الحديث إن شاء الله في مقال قادم..
مشاركة :