تطوّرات جذرية تطرأ على مفهوم العقاب في مدارس لبنانية

  • 12/8/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

لم تستطع مريم أن تمنع دموعها من الانهمار عندما تتحدّث عن ابنها البالغ من العمر 9 سنوات، والذي يعيش حالة من الاكتئاب والانعزال بسبب طريقة تعامل معلّمه في المدرسة معه. نسألها إذا كان تعرّض للتعنيف الجسدي لأنّها بذلك يمكن أن توصل القضية إلى المسؤولين التربويين وتحصّل حقّ طفلها، فتجيب بالنفي لتقول: "العنف اللفظي أسوأ بكثير من الجسدي". فابنها لم يكن يوماً من الأوائل في صفّه، لكنّه ينجح مع بعض الدروس الإضافية ودعم أساتذته له. لكنه تعرّض في السنة الدراسية الجارية لأزمة حقيقية سببها التنمّر الشديد من أستاذ مادة الرياضيات. كلمات نابية، توصيفات حادة، تشبيه بالحيوانات وتعريض التلميذ للمذلّة أمام زملائه. ومع بلوغ السنة الدراسية منتصفها بدأ ابن مريم بالهروب من المدرسة ورفض الذهاب إليها وفضّل الانعزال عن الجميع. "جريمة" أستاذ الرياضيات واضحة التأثير معنوياً ونفسياً، لكنّ أهل التلميذ لا يدركون كيفية التصرّف حيال هذا الموضوع. فالكلام يبقى كلاماً ويمكن ألا تأخذه إدارة المدرسة في الاعتبار إلا إذا كان هناك شكوى جماعية تصل بعدها إلى وزارة التربية. غير أنّ التعنيف اللفظي الذي يمارسه الأستاذ وسلطته التي يفرضها بالقوّة في صفّه يجعلان التلامذة خائفين من الشكوى. وهكذا تبقى الطريق أمامه مفتوحة للتنمّر على مزيد من التلامذة والتقليل من قيمتهم وإذلالهم من دون أن يدرك كيف لذلك أن يعيق مسيرتهم التعلّمية.   أساليب مخزية مسألة العقاب المدرسي مطروحة دائماً في لبنان وباختلافات شديدة بين المؤسسات التعليمية الخاصة أو رسمية، المنطقة التي تتواجد فيها وما إذا كانت الثقافة المحلية تجيز تعنيفاً للتلميذ من جانب الأهل خصوصاً. فشكاوى عدة لا تزال تسجّل حيال العنف الجسدي الذي يمارسه أساتذة على تلامذتهم، وآخرها ما حدث مع التلميذ رامي حسين في المدرسة الرسمية ببلدة خريبة الجندي، حيث أقدم مدرّسه على الاعتداء عليه بالضرب المبرح مستخدماً قضيباً ما تسبّب له بأضرار جسدية. وقد بيّنت الكدمات أنّ طريقة الضرب كانت عشوائية ولم تقتصر على اليدين فقط. وتقدّم أهل التلميذ بشكوى أمام دائرة التربية في شمال لبنان مطالبين فيها وزير التربية الياس بو صعب بمعاقبة الأستاذ على فعلته، ومن خلال التحقيقات التي أجريت تبيّن أنّ هناك تلامذة آخرين تعرّضوا أيضاً للضرب، وقد أعلن الوزير أنّ الأستاذ سيعفى من مهماته وسينتقل إلى مكتب إداري في المنطقة التربوية. لكنّ العقاب السريع الذي يمكن أن يحلّ بالأستاذ الذي مارس عنفاً جسدياً لا يطبّق ذاته في حالة العنف اللفظي، لأنّ الأمر يتطلّب مزيداً من التحقيقات والتدقيق، وغالباً ما لا تصل مثل هذه القضية إلى خاتمة إلا إذا كان هناك تسجيل صوتي للأستاذ أو فيديو يظهره وهو يقوم بسلوكه العنفي اللفظي، ما يمكّن الإدارة من اتخاذ إجراءات الملاحقة المناسبة. ويُضاف إلى العنف اللفظي أنواع عدة من العقاب لا تزال تطبّق في مدارس ولها تأثيرات سلبية وخطيرة في التلامذة مثل ركوع التلميذ على ركبتيه ساعات طويلة في زاوية الصفّ مع كلّ ما يمكن أن يحمله ذلك من تأثيرات نفسية، الاعتماد على "خزانة الوحش" لعقاب الأطفال الصغار حيث يوضعون في خزانة موحشة ويقفل عليهم فترة من الوقت ويمكن تصوّر الأفكار التي ترد إلى ذهن الطفل والرعب الذي يمكن أن يعيشه. أما العقاب الأسوأ والذي سجّلنا شكاوى عدة منه، فهو ارتداء علامة العار حيث تُكتب عبارات مهينة على ورقة كبيرة وتلصق على ظهر الطفل أو صدره، ويُجبر على التنقّل بها طوال اليوم بين زملائه ما يعرّضه للتنمّر الشديد وهو الأخطر على الصحّة النفسية لأي طفل.   بدائل مفيدة في مقابل الحالات التي أشرنا إليها وتتطلّب معالجة جذرية للحدّ من تأثيراتها خصوصاً التسرّب المدرسي بسبب تعرّض الطفل للعنف النفسي، هناك تطورات يشهدها مفهوم العقاب في مدارس عدة تتبع نظاماً تربوياً خاصاً بها وتسعى إلى تطويره. فكما تلفت المستشارة التربوية نها رزق التي تعمل عن قرب مع مجموعة من المدارس لتحسين أدائها التعليمي، إلى أن "هناك تحسّناً بارزاً في طريقة فهم العقاب المدرسي وتطبيقاته. فالعنف الجسدي واللفظي محظور في المؤسسات التربوية ذات الكادر التعليمي المختار بدقّة وبوجود إدارة متنبّهة لأي سلوكات خاطئة ولجنة أهل مراقبة للأوضاع". وهناك بدائل طبعاً تشير إليها رزق، ويمكن أن يلجأ إليها الأستاذ لعقاب التلميذ في حال كان سلوكه مشاغباً أو إذا كان يرسب باستمرار، مذكّرة كل أستاذ أنّ "رأسماله في العملية التعليمية هو حبّ التلامذة له وشعورهم بالاحترام تجاهه ما يجعلهم أكثر امتثالاً لما يقوله". فمن البدائل حرمان التلميذ من نشاط محبّب لديه في المدرسة لفترة من الوقت، وتقديم الوعد له بمزاولته مجدداً مع أول تغيّر في السلوك. كما هناك طريقة إيجابية جداً تتمثّل بوضع مخطط مستقبلي واعد في حال نجح الصفّ كلّه في مادة معينة مثل رحلة مميزة وقضاء يوم خارج المدرسة ما يخلق جوّاً من التحفيز، ويتكامل ذلك مع أهمية تفعيل الجوائز التشجيعية ما يزيد من رغبة الطالب في التقدّم. ومن سبل العقاب أيضاً إضافة واجبات على التلميذ والتي يجب أن ينجزها في البيت ويقدّمها في اليوم التالي، لنصل أخيراً إلى التهديد باستدعاء ولي الأمر أو استدعائه فعلاً في حال كان الأمر يتطلّب ذلك. وتشدّد رزق على أهمية وجود اختصاصي نفسي في كلّ مدرسة سواء خاصة أو رسمية، لأنّ في إمكانه تقديم الدعم الكبير ليس فقط للتلامذة بل للأساتذة أيضاً والذين يمكن أن يجدوا أنفسهم في أوقات كثيرة غاضبين ومرهقين أمام الأعمال اليومية. فيساعد الاختصاصي في التنفيس من الاحتقان ليكون الأستاذ أكثر قدرة على تفهّم التلميذ وتعديل سلوكاته الخاطئة بطريقة إيجابية.

مشاركة :