طبيعة الحياة في العراق الآن، التي تكاد تغلق جميع المنافذ على المستقبل، هي التي تشيع الأسطرة، وتجعل منها ملجأ، يلجأ إليه الإنسان. العربحميد سعيد [نُشرفي2016/12/10، العدد: 10481، ص(16)] يوم تحدث وزير النقل العراقي عن عـربات فضائية سومرية كانت تهبط أو تنطلق من مدينة أور، واستقبل تصريحه بضجيج الساخرين، علقت بالقول: إن المحيط الذي هو فيه، حيث تشيع الثقافة الأسطورية، منحيةً كل ما هو علمي وموضوعي، هو الذي دفع به إلى تبني هذه المعلومة من دون أن يحتكم إلى العقل بقبولها أو رفضها. وأنا هنا، لست في مجال الإساءة للرجل، فما ناله منها، لا يترك مزيدا لمستزيد، مع أنني قرأت كتاب “عربات الآلهة” حين صدور ترجمته إلى العربية، واطلعت على هذه المعلومة التي لا تتجاوز فضاء الخيال العلمي، بما فيه من شطحات ومبالغات، ولم أجد في الكتاب يومذاك إلا ما يعتمد مرجعية مخيلة أسطورية. وقد أيدني شخص قريب من هذا المحيط، وعلى معرفة به، قائلا: إن شخصا مهما في الكتلة التي رشحت الرجل للوزارة، لا يخطو خطـوة إلا بعد استخارة “السبحة” وأنـا أنقل هذا القول، حسب مقولة “ناقل الكفر ليس بكافر” لا أرفضها ولا أتبناها، والله أعلم. لقد شاءت المصادفة، أن أكون بعد أيام من إطلاق هذا التصريح، في زيارة إلى معرض الكتـاب الدولي في العاصمة الأردنية، عمان، وإذ كنت جالسا في جناح دار دجلة للنشر والتوزيع، تقبـل فتـاة توقعت أن تكون في العشرين من العمر، وتسأل عن كتب كشـف الطـالع، فيعتذر مدير الدار ويدلها على جناح يمكن أن تجد فيه بغيتها. وإذ لاحظ مدير الدار ما ظهر علي من تعجب، قال لي: لو أطلت الجلوس، لوجدت أن مثل هـذا السؤال يتكرر، وبخاصة عن كتب تفسير الأحلام. قلت في نفسي: إذا كان هذا الحال، في المجتمع الأردني، بكل ما فيه من استقرار وإقبال على الحياة، فكيف الحال في مجتمعات يدمرها العنف والصراع وغياب الأمان والاستقرار؟ ومع هذا التساؤل، كان الوضع في بلدي حاضرا. وإذ عدت إلى البيت، حدثت زوجتي عما رأيت في المعرض، متسائلا عن الحال في العراق، فأجابتني بلهجتها البغدادية: “إنت وين عايش، لقد صار الدجل في العراق، شغل من لا شغل عنده، من النساء والرجال!”. وتذكرت رواية “سلاف بغداد” وهي آخر ما كتب الأكاديمي المعروف محسن الموسوي، حيث يتناول الوضع في العراق، وكأن زوجتي في ما قالته، تتماهى مع ما ذكره الموسوي في روايته. فرجل الدين الذي يرث الشيخ جلال الحنفي في جامع الخلفاء، وهو المعمم المتحرر والمثقف الموسوعي، يتحول إلى تفسير الأحلام وقراءة الطالع، ويقول “لو تعلم، كم عدد البشر الذين يتوافدون على المساجد والتكايا والزوايا لاستقراء الأحلام.. لاستغربت فعلا”. أما يوحنا السرياني الأستاذ في كلية العلوم فيقول “كنت قرأت كتاب ابن سيرين في تفسير الأحلام، وربما تسألني: هل من المعقول أن أترك – العلم – وأستعين بهذه القراءة ؟”. إن ما تضمنته رواية “سلاف بغداد” هو رصد لواقع اجتماعي مرتبك ومربك، وإذ كنت غير بعيد عن دراسات الباراسايكولوجي، وأعرف مما قيل بشأن ما يسميه علي الوردي “الخارقية”، لكن شيوع الثقافة الأسطورية ومن تجلياتها، البحث عن تفسير الأحلام والسحر وقراءة الطالع، فهذا الشيوع لا يكون في مجتمع آمن ومستقر ومنفتح على المستقبل، وإن طبيعة الحياة في العراق الآن، التي تكاد تغلق جميع المنافذ على المستقبل، هي التي تشيع الأسطرة، وتجعل منها ملجأ، يلجأ إليه الإنسان. كاتب من العراق حميد سعيد :: مقالات أخرى لـ حميد سعيد الثقافة الأسطورية , 2016/12/10 الإبداع.. التواصل أم القطيعة, 2016/12/03 الوعي النقدي , 2016/11/26 المثقف والطائفية, 2016/11/19 13 رسالة.. ورسالة قصيرة, 2016/11/12 أرشيف الكاتب
مشاركة :