صار ملحا على العرب إعادة النظر في تحالفهم القديم مع الولايات المتحدة. لا بديل أمامهم سوى إدراك أن العالم أحادي القطبية الذي ساد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي لن يدوم طويلا. العربأحمد أبو دوح [نُشرفي2016/12/10، العدد: 10481، ص(8)] لم يترك باراك أوباما في سوريا أي خيارات متاحة أمام الرئيس المنتخب دونالد ترامب سوى أن يقبل بقيادة فلاديمير بوتين التي تحولت من صيغتها الضمنية إلى شكلها الصريح منذ بدء معركة حلب. عجز أوباما كان ترجمة لهزيمة الولايات المتحدة أمام جسارة بوتين غير المسبوقة. مهما حاولت واشنطن استعادة نفوذها في المنطقة فسيستغرق الأمر عقودا لترميم علاقات انهارت مع دول المنطقة، خصوصا الدول الخليجية الغاضبة. حلان فقط صارا أمام ترامب وفريقه: إما الاستمرار في سياسة تزعم جمهور المتفرجين على ما يحصل في سوريا خصوصا، وإما القيام بعملية انتحارية قد تودي بما تبقى في المنطقة ودولها التي ما زالت باقية على قيد الحياة. لا يتعلق الأمر هنا برفاهية تمديد النفوذ، أو تضييق مساحته انطلاقا من مناورة سياسية لتعزيز المصالح الأميركية. الولايات المتحدة تقف لأول مرة عاجزة عن خلق أي بدائل ذات معنى. سيكون على ترامب تسديد ثمن الوجود على الأرض لتحقيق هدف وحيد، وهو استمرار أدنى حد من النفوذ المتبقي. هذه سياسة إدارة أوباما في سوريا بحذافيرها. لم تقدم واشنطن منذ اندلاع الحرب الأهلية هناك أي رؤية حقيقية يمكن التعويل عليها.بدلا من أخذ زمام الأمور وتوجيه دفة الأحداث، أسندت الولايات المتحدة الملف برمته لتركيا ودول خليجية أخرى تدعم جماعات إسلامية مسلحة. كان ذلك تكرارا متعمدا للسياسة الأميركية في أفغانستان مع نهاية سبعينات القرن الماضي. هناك لم يكن منطقيا أن تواجه الولايات المتحدة قوات الاتحاد السوفييتي لإجبارها على الخروج من البلد، ورفع يدها عن الحكومة الماركسية المهيمنة على الحكم. لو حدث ذلك لكان كفيلا بإشعال حرب عالمية يخشاها الطرفان على حد سواء. أُسند الملف وقتها للمخابرات المركزية الأميركية التي كانت تعمل مع دول عربية داعمة للمتشددين الإسلاميين. النتيجة هي أن أفغانستان تحولت إلى بؤرة سوداء ينبع منها الفكر الجهادي ويصب في كل دولة عربية وغير عربية في محيط المنطقة. بعد ذلك بربع قرن تقريبا، أثبت غزو العراق أنه سواء حاولت الولايات المتحدة توجيه دفة الأحداث عبر وكلاء لها، أو تدخلت مباشرة لتغيير الواقع السياسي والعسكري القائم في المنطقة، فإنها حتما ستتسبب في انهيار البنية الرئيسية لأي شكل من أشكال الاستقرار القائم، ولن تستطيع وحدها إعادة الموقف لما كان عليه. كان العراق، على سبيل المثال، درسا لعدم قدرة أي قوة عظمى على إعادة بناء مؤسسات أي دولة وسط مجتمع تسببت هي في انفراط عقده. دونالد ترامب يدرك هذه الحقيقة جيدا، لكنه لا يعرف ما هو البديل. تشير جميع الدلائل إلى أن سوريا صارت ورقة خاسرة بالنسبة إلى الأميركيين على أية حال. لا أمل في إعادة بناء نفوذ في الوقت الضائع. ليس بعد انتهاء المباريات تُحرز الأهداف. يحاول محللون كثر الإشارة، باستمرار، إلى الأدوات التي يجب أن تلجأ إليها إدارة ترامب لشراء بعض النفوذ في الشرق الأوسط، أو للحفاظ على ما تبقى منه. المشكلة هي أن الكثيرين لم يعودوا قادرين على إدراك أن ترامب ليس مهتما أصلا بتعزيز هذا النفوذ. مؤخرا قال الرئيس الأميركي المنتخب في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز “لا أعتقد أنه يجب علينا أن نلعب دور الراعي لكل الدول المنهارة”. هذه سياسة ستعزز حتما نفوذ إيران على حساب الخليج في المنطقة. التماهي الذي يسعى إليه ترامب مع سياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيضا سيشجع إيران على التوغل أكثر في دول عربية، مرجح لأن تكون التالية على قائمة أهداف طهران. كل تركيز ترامب خلال حملته الانتخابية جاء على الاتفاق النووي. قد يبدو ترامب على الجهة المقابلة تماما لجهة أوباما في غالبية الملفات الداخلية، لكن فيما يتعلق بإيران لا يمكن التمييز كثيرا بينهما. لا يعني كلا الرجلين سوى القنبلة النووية، والتهديد الإيراني (الذي لم يتعد الحدود الخطابية) لإسرائيل. لا يبدو إلى الآن أن الصوت العالي للعنصرية والطائفية اللتين تعتمدهما إيران يزعج أصغر موظف في إدارة ترامب الجديدة. ما يجب أن تتعلمه الدول العربية اليوم أنه لن يكون مجديا الاعتماد على واشنطن في المستقبل مهما طالها من تقلبات. لا أقصى الديمقراطيين يسارية، ولا أشد الجمهوريين يمينية صار مستعدا لتحمل تكلفة التحالف التقليدي مع العرب، التي صارت بالطبع باهظة. ذهب رئيس أسود وسيأتي رئيس أشقر ولن يتغير شيء. صار ملحا على العرب أكثر من أي وقت مضى إعادة النظر في تحالفهم القديم مع الولايات المتحدة الأميركية. لا بديل أمامهم سوى إدراك أن العالم أحادي القطبية الذي ساد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي لن يدوم طويلا. في السابق كان العرب حلفاء لأميركا المصرة على الانتصار في الحرب الباردة. اليوم ينظر العرب إلى أميركا التي لا تملك مزاجا حقيقيا للانتصار. بعد انتهاء فترة ترامب الرئاسية الأولى سيتذكر السياسيون عندنا كم كانت المقامرة بهذا التحالف الذي لم يعد مجديا ضرورية قبل أربعة أعوام. كاتب مصري أحمد أبو دوح :: مقالات أخرى لـ أحمد أبو دوح العرب أمام حتمية مراجعة التحالف مع أميركا, 2016/12/10 مصر والسعودية: تقارب مفيد أكثر منه تحالف, 2016/10/18 حلب تطلق حربا باردة جديدة بين موسكو والغرب, 2016/10/10 ثورة ماركسية في حزب ديمقراطي , 2016/09/23 العصر الروسي في الشرق الأوسط, 2016/09/18 أرشيف الكاتب
مشاركة :