محمد الأسعد لكل نص ذاكرة سواء كانت هي ما يستنهضه النص في مخيلة القارئ أو كانت هي ما يرتاده الكاتب من تضاريس وما يحشده من إشارات، إنها ذاكرة تعتمد الماضي أو ما سيصبح ماضياً بمجرد أن يوضع على الورق، بالنسبة للقارئ والكاتب معاً. وتبنى من كل هذا إمكانية تخيل وتواصل وأسلوب حياة. وفي أرقى مستوى كتابي لا يتوقف الأمر عند حدود تقرير الماضي بل على اقتراح أفق للمكان والزمان بحيث يغدو المكان غريباً نوعاً ما عما هو مألوف، ويصير الزمان لحظة جوهرية في هذا السيل المتدفق من الفوات والزوال. ولعل سؤال الماضي الذي يكاد يكون موضوعة مهيمنة في الآداب والفنون هو أكثر الأسئلة دلالة على أن ما يبني النص ليس الحاضر بل الذاكرة قبل كل شيء، ذاكرة لا تستطيع دخول الحاضر نفسه إذا لم تحوله إلى ماض لتستعيده في بهاء اكتماله: في اللحظة الجوهرية، وكأن الخبرة المستعادة لا تتم إلا في الزمان، ولا تنهض كخبرة إلا في الما قبل أي ما قبل الكاتب والنص. وظيفة الماضي في النص هي الوظيفة الضرورية التي لا ينهض نص من دونها، ويمكن أن نمضي إلى ما هو أبعد، فنقول إن وظيفة الماضي في الحياة الإنسانية تؤدي الدور نفسه؛ لا تنهض حياة إنسانية من دون ماض من نوع ما. إذاً للنص ماض: بمعنى أن له مرجعية في ثقافة ما، وله من هذه المرجعية الناس والوقائع والأحلام، له التاريخ بمعنى من المعاني، تاريخ اللغة والثقافة. إنه يفسِّر ماضيه ويفسر به. وكون النص أدبياً أو فنياً ذا مدونة لغوية وحضور ملموس، لا يعني أنه لا يعتني بتاريخ الروح، ولكن هذه الروح ليست طريدة من الطرائد أو جرة يكتشفها الباحث عن الطرائف، بل هي خلاصة اختبارنا للتاريخ، أو خلاصة اختبار الفرد الكاتب للتاريخ، ومن الفرد ينبع التفرد أي الأصالة. أيكون لنفوذ الكلام علاقة بالأصالة؟ يبدو أن البشر في أعماقهم، رغم ارتياحهم للتماثل والتشابه، يتوقفون عن هذه العادة أمام معجزة الأصالة، أي التفرد، ويلحون عليها، ولا يميلون إلى التماثل إلا حين تخلو الحياة من أي إبداع. الناس في الحقيقة، ليسوا دعاة التماثل وبلادة العادة، بل هي فئة تجعل من قصورها ومداه معياراً للكمال، فتخفض من التوتر الذي يبعثه هذا الكمال في الجموع، وتميل إلى تحويل التاريخ إلى طرائد لا اختبارات، والنص إلى ذكرى لا ذاكرة. فيقع الاختيار على الجاهز والصدى، وليس على المؤسس والفعال. هناك النص إذاً، وهناك الحياة، وكلاهما يمتلك هذه الخاصية الجوهرية: لا نهوض من دون ماض تستعيده الذاكرة، أي لا نهوض بلا مرجعية من تراث أو جيولوجيا، أو أي نوع من الطبقات الأرضية لإسناد الحاضر واقتراح الآفاق. هذه الفكرة ليست جديدة ولا تبريرها جديد، فنحن نعرفها في المأثورات الشعبية وفي الخطابات التعليمية، ولكن ما نعتقد أنه يحمل شيئاً من الجدة هو أن هذه الفرضيات قد تكون مهمة كمدخل معرفي (ايبستمولوجي) للحديث عن نفوذ النص، أي عن نفوذ الكلام في النصوص الأدبية تحديداً. ذلك النفوذ الذي كان للمقدس عادة، وما زال الكلام والثقافة يحاولان محاكاته أو استعارة شيء من لهجته العميقة التي تخترق الزمن، فتظهر وكأنها تجيء من المستقبل والماضي معاً وتحيط بنا. ما يطمح إليه أي نص إبداعي هو نفوذ على الواقع والخيال الإنسانيين معاً. مشروعية مثل هذا الطموح ليست مستمدة من الكاتب بوصفه إنساناً حراً فقط، بل من وظيفته الأكثر جدوى: وظيفة حارس الذاكرة - الماضي - الجيولوجيا. كل كاتب مسبوق بالماضي عن ضرورة، بوصفه خبرة في الزمان. هو يكتب دائماً في زمن لما بعد، بعد الحادث واللغة والطبيعة. وهذا يعني أن تملكه للماضي هو إحدى اهم سماته الفكرية. ولكن للماضي أناسه ومبدعيه أيضاً، له ذاكرة وتكوين، وكل هذا حاضر ومحيط، وليس ماضياً عابراً إلا بمقياس الزمان الشمسي. إنه مسافة من مسافات الداخل الإنساني. فكيف يتم الدخول، وكيف يتحول حاضر الكاتب ومستقبله إلى كل متناغم مع ماضيه؟ كيف يتحوّل إلى ديمومة، إلى ملكية خاصة تمد الكاتب بالنفوذ على الواقع المعاش والمتخيل؟ الجواب البدهي: بإزالة صفة الثبات عن هذا الماضي، الصفة التي تجعله معطى مرة واحدة وإلى الأبد، وليس مستقبلاً مضمراً، وباعتباره اختباراً مفتوحاً للأجيال لم يقدم فيه أحدٌ حساباً لأحد. هنا يصح أن يحضر معلمو الماضي مع معلمي الحاضر في فضاء واحد، ويصح أن يجتمع التعاقب، تعاقب الأحداث والوجوه والأفكار، في محور مكاني، فتتجاور آناته وتتحاور. إذا مضينا أبعد، نجد أن ما يحضر حقيقة هو الأجيال كلها، فتتغير المواقع. ألا نلاحظ أن آلام الماضي لا تشغلنا أكثر مما تشغلنا آلام الحاضر؟ وكأن كل ما مضى كان/ ولم يكن؟ إن سلالم قيم جديدة يمكن أن تنشأ بعد هذا الاختبار، وبعد أن نحسب حساباً، ليس لعيون أطفال المستقبل فقط، بل ولعيون أطفال الماضي أيضاً. هذه اللحظة هي التي نسميها لحظة جوهرية يصير إليها الزمان. ونضيف، وهي اللحظة الجوهرية التي يصير إليها الإنسان. إنها اللحظة التي يشعر فيها الكاتب أنه مسؤول أمام أجيال الماضي والحاضر والمستقبل معاً، مسؤولية لا تعدّد وتنوع سلالم القيم فقط، بل تعدّد وتنوع طبيعة النص نفسه حين تعلي من شأن قيم لا زمنية تبدو في نظر هذا الحشد الساكن حول نقطة، هي الكرة الأرضية، غير ذات جدوى في صراعه اليومي. هذه اللحظة في جوهرها ليست سوى ما نسميه لحظة يقظة الضمير الأخلاقي حين يتجاوز الآني والمؤقت والعابر ويتمثل على هيئة ميزان أبدي. ولا أبدية أعمق من معايير العدل والحق التي لا تخضع للنسبية السياسية والانتهاكات الطفيلية لكتّاب الموجات العابرة. في هذه اللحظة، لا تمثل الجيولوجيا الثقافية مجرد مخزن مفتوح لصيادي الطرائف والطرائد، بقدر ما تمثل أرضية يتجذر فيها حسّ المسؤولية، ليس عن المصير الفردي لهذا الإنسان أو ذاك، أو هذا الشعب أو ذاك، بل عن المصير الإنساني. هذا المصير لا يعود مجرداً حين نعني به مصاير الملايين التي ماتت، والتي هي في طريقها إلى الموت، أو ربما لإخلاء هذا الكوكب العجيب الذي لم يدخل في تركيبه الأخلاقي اكتشافُ الكون الشاسع أو لم يتدخل فيه، ولا زال يعيش في عصر ما قبل اكتشاف القارات والأجناس. صحيح أن اكتشاف القارات والمجرات أغنى مسالك المعرفة، ولكن الصحيح أيضاً أن كل هذا الامتداد المعرفي لم يمنح الكوكب الأرضي شعوراً بالضآلة، ضآلة قيمه ومقاييسه وصغائره، أمام أخلاقية كونية ترسل المجرات الهائلة إشاراتها الغامضة. قد يكون لأي كلام نفوذ، حتى وإن كان أسطورة أو خرافة أو لا عقلاً، مثل الأسطورة النازية أو الخرافة الصهيونية أو لا عقل رأسمالية الاحتكارات، ما دام يستند إلى جيولوجيا من هذا الكوكب، أو جزء منها، في تكوين ثقافة شعب أو عصابة، إلا أن هذا النفوذ يظل نفوذاً ضيقاً لا ينفتح على رحابة كون الإنسان، ولا يدخل في تركيبه اختبار التاريخ المتجدد، ولا اللحظة الجوهرية. إنه لا ينتمي إلى اللحظة التي يلتقي فيها معلمو البشرية، بل إلى لحظة ضحلة عابرة يقبع فيها جلادو البشرية في كهوفهم ترعبهم الأجناس والمسالك وسعة الكون. بهذا المعنى ليس لذاكرة النص أن تكون ضحلة، أو عشبة على سطح القشرة الأرضية، بل لها أن تكون، وتطمح إلى أن تكون، جزءاً من جيولوجيا أعمق وأشمل تتصل بهواجس وأسئلة الإنسان، ذاك الذي عاش ويعيش.. وسيعيش أيضاً. إن صورة الأرض الخالية التي تطل عليها شمس باردة وميتة، كما تتوقع قوانين الديناميكا الحرارية، لا تبعث في الذهن عبثية القيم الأخلاقية، بقدر ما تحرض على البحث عن قيم أخلاقية أعلى تتناسب مع ميلاد هذا المشهد الكوني.
مشاركة :