لا شك أن لذة رؤية الاسم المطبوع لأول مرة على صفحات مجلة أو جريدة أو كتاب، لها سحرها الخاص وذكراها التي لا تُنسى، لكنها ليست الخطوة الأولى فحسب، بل إنها الدافع الأقوى لعشرات ومئات الأفكار التي تدور في مخيلة صاحبها لتوظيفها في نص ثانٍ وثالث وهكذا، ومهما تعددت أشواط الكتابة وكثرت محطاتها في حياة الكاتب أو الشاعر، ومهما بلغ من مكانة أدبية مرموقة وما حقّقه من إنجازات طوال مسيرته، يبقى النص الأول في الذاكرة محفورًا، يستعيده البعض بدفء وحميمية، فيما يتركه آخرون حبيسًا في غياهب الذاكرة مرهونًا للنسيان، فهل النص الأول بارقة نجاح أم نص يستحق النسيان؟!، وهل تتذكر نصك الأول؟، وما مكانته في قلبك وروحك الأدبية؟ طفلي الأول في البداية؛ يرى الشاعر "جاسم الصحيح" أن "العلاقة بالنص الأوَّل في حياة المبدع علاقة ذات نكهة سحريَّة يستشعرها كلما عاد إلى ذلك النص المخبوء في غيابة جبِّ الذاكرة، أو غياهب الأدراج، وما إنْ يستيقظ النص من غفوته حتى تستيقظ معه ذكريات مزمَّلة بالشجن ومدثَّرة بالشجى ، وينتفض الإحساس القديم المتوهِّج بالدفء والحميمة في علاقة المبدع بالكلمات خلال بداية هذه العلاقة حيث البراءة هي سيِّدة الموقف، فما الذي تستطيع فِعلَهُ اللغةُ الحبلى للمرة الأولى أمام دهاء الحبر وحنكة الورقة؟!، هذا سؤالٌ لا يمكن أن نجيب عليه حتى نؤمن بأنَّ اللغة في حالة الكتابة تشبه حبلى فاجأها الطلق فانتبذتْ لها بياضا قصيًّا على الورق من أجل ولادة جنينها. شخصيا، أتذكر ذلك الجنين جيِّدا، أتذكره جنينا ينسلُّ من رحم لغتي الأولى دون أن ترعى ولادته قابلةٌ تمدُّ سواعدها لتحتضن صراخه، وتقطع حبلَ سرَّته، وتغسله بماء البديع الصافي، وتقمِّطه في مهد المجازات الأنيقة. خرج هكذا عاريا من كلِّ شيء سوى كلماته المتوشحة بالصدق، بينما دماء المخاض السوداء كانت مسفوحة من حوله على هوامش الورقة". وتابع: "حملتُهُ كما حملتُ طفلي الأول (أحمد)، وجئت مضيئا بشعاع الدهشة التي غمرتني بعد تجربتي البكر مع الحمل السريع والولادة العجولة، وشعوري المثير بأنني أتمتع بخصوبة الإنجاب الشعري. جئتُ إلى الأصدقاء كي أعرض عليهم هذا الوليد اللغوي الذي خُلق على عجل، وانعقدت نطفته والتحمت أمشاجه في لحظة انفعال، وراح يسبح مثل حلم في رحم اللغة. ومن حُسن حظي أنَّ أصدقائي لم تكن لديهم سابقُ تجربة مع أمثال هذا المولود، لذلك كانت المفاجأة بالنسبة لهم كبيرة، ودائرة الانبهار على وجوههم واسعة إلى درجة أنهم أشعروني أنني من فحول الشعراء الذين استولدوا مئات القصائد قبل هذا الوليد، فما كان منِّي إلا أن تركتهم في انبهارهم يعمهون، كائني الأول هذا لم يكن قد انسلَّ من أحشاءِ مخيِّلةٍ خلَّاقة، ولم يكن مبطَّنا بصُوَرٍ شعرية خصبة تنثال بالعواطف الجيَّاشة، ولا كان مجنَّحا بالرؤى الثاقبة، ولا متميِّزا بحساسيَّةٍ لغوية فاتنة.. لم يكن يتمتع بشيء من هذه السمات، ولكنَّه رغم ذلك استطاع أن ينقلني على جناح الدهشة من عالمي المادي إلى فضاء الحلم، ومن ضيق الجسد إلى سعة الروح". وأضاف: "في علاقتي مع النص الأول، لم أكن أعي أنَّ الكتابة هي سيطرة على الأشياء من أعماقها، والوصول إلى منبع الوجدان، ومحاولة إزالة الصخرة عن فوَّهة المنبع كي يأخذ تدفُّقه المطلق.. لم أكن أعي كلَّ ذلك فقد كنت أكتب بكامل سذاجتي وبراءتي وفطرتي، ولكنَّني في الوقت ذاته كنت أشعر بأنني جربت القفز على أسوار الجسد، وحاولت القفز على قضبان العِظام، واجتهدت في التحليق إلى فضاء جديد بالنسبة لي، الأمر الذي دفعني ورغَّبني لمحاولة التحليق في نصٍّ جديد إلى فضاء أعلى مهما كلَّفني ذلك من عناء، وهكذا توالت الرغبة في أثر الرغبة، وانطلق النصُّ في أثر النص. ومن هنا تأتي أهميَّة النصّ الأول فهو يشبه باكورة الثمار في موسم طويل الأمد يمتد بامتداد العمر، ويمكن تشبيهه أيضا بالحبِّ الأول أو الطفل الأول في حياتنا، بل وكلّ ما ينتمي للإحساس الأول بالحياة. خلاصة كل ذلك، إنَّ هذا النصّ لا يستحقّ النسيان حتى وإن بقي بعيدا عن أشعة الإعلام أو أضواء النشر، فحسبه أن يبقى مخبوءا في مكان ما من الروح". لحظات لا تُنسَى أما الشاعر والناقد "د.عبد الله السفياني" فيستذكر نصه الأول قائلا: أنه دائما ما تكون اللحظات الأولى التي يعيشها الإنسان في أي تجربة من التجارب لحظات مشبعة بمشاعر مختلفة، مشاعر الخوف والتردد، مشاعر الأمل في النجاح، والإبهار والإدهاش، مشاعر انتظار الردود التي قد يحصل عليها من هذه التجربة سواء كانت هذه التجربة في عالم الإبداع، أو حتى في عالم الحياة الواقعية العملية الوظيفية فطبيعة الإنسان أنه دائما مع الخطوات الأولى يعيش مشاعر متضاربة يصعب وصفها على كثير من الأدباء. ولذلك دائما ما يتحدثون عن النص الأول كما يتحدثون عن الحب الأول وعن المنزل الأول، ولذا كثيرا ما نستشهد جميعا بقول أبي تمام: نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى/ ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ/ كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى/ وَحَنينُهُ أَبَداً لِأَوَّلِ مَنزِلِ، فالمنزل الأول والحب الأول تظل لها مشاعر من الحنين والذكريات والبصمات الأولى التي كان فيها الإنسان يخطو خطواته الأولى ويتعثر ويقوم ويبحث عمن يمد له يد العون، ويقف بجواره، ليستطيع مواصلة المسير. ويتابع: "لي بيت من الـشعر أقول فيه: حين ارتبكنا في الكلام ولم نجد طفلا يعلمنا الكلام لنعبر، وهي اللحظات التي يشعر فيها الإنسان بالقدرة والعجز في نفس الوقت. أنا حقيقة لا أذكر بالتفصيل اللحظات الأولى التي نشرت فيها كتبت فيها أو نشرت نصًا شعريًا في المجلات أو في الصحف. لكنني أتذكر مثلا أن أول نشر لي في الصحافة كان عبارة عن مقال مطول في صفحة كاملة عن الشاعر الشعبي والفصيح أيضا: بديوي الوقداني، وأذكر أنه نشر في صحيفة المدينة وكنت أتوقع أنه مقال مثل أي مقال سيمر مرور الكرام، لكنني اكتشفت أن هذا المقال حصل حوله حوار وأثار جدلًا كبيرًا حول بعض المعلومات التي ذكرتها فيه. وكانت لحظات فعلا يتذكرها الإنسان بشيء من الحنين والجمال والامتنان للذين وقفوا معه فيها ومدوا له يد العون والبصيرة والنصح والإرشاد والتوجيه ولذلك دائما ما نكون ممتنين لهؤلاء الرائعين من المعلمين ومن المرشدين والكبار الذين استطاعوا أن يمدوا لنا جسورًا من الضوء نمشي عليها لنصل إلى تحقيق شيء من أهدافنا". نبض جديد أما الشاعرة "تهاني الصبيح" تستذكر نصها الأول الذي كتبته في عشق الأحساء بمحبة قائلة: "لا شيء يا منى أجمل من الولادة الأولى التي تشعرنا بأثرِ نبض جديد يسكن صدر الحياة أو اخضرار غصن صغيرٍ منعتقٍ من جذع مخاض هزته القريحة فيتساقطَ نصًا جنيًا، ولا أعرف ماذا أقول عن نصّي الأول الذي كانت قصته تشبه قصة الفانوس السّحري حين حملتهُ بين يديّ وأنا في حالة ارتباك وحيرة ولم أدرِ خلالها أن بداخل هذا الفانوس ماردٌ سيخرج من قمقم المعنى ويبعثني بنبوءة الشعر، وكان نصًا وجدانيًا يعبر عن عشقي لمدينتي الأحساء وجذور انتمائي لها رغم أنني من مواليد مدينة الخبر، وقد تم نشره في جريدة اليوم السعودية خلال أول لقاء صحفي أجري معي آنذاك، لقد كان نصًا عاديًا في شكله لكنه كان عميقًا في مضمونه وهو النص الذي عبر بي مسارب الكنايات وجعلني أعلو إلى سدرة المجاز، وأصبحُ قاب قوس من تجليات الصور، من شحذ الخيال، من صناعة الدهشة، أعتقد بشدة أن النص الأول هو الشاطئ الذي فضلتُ الوقوف عليه وأنا حافية القدمين بانتظار جاذبية المدّ ولذة الغرق، بانتظار موجة عالية تخطفني للأعلى وتمنح عينيّ فرصة التحليق، ولا أظن أنني سأستحي من العودة إليه أو الوقوف أمامه لأنني مهما اتهمته بالضحالة سأجدني مجبرة على حبّه مقيّدة بالحنين إليه"، وأضافت: "هو نصٌ تحتضنه الذاكرة ويجب علي أن أكتبه على ورق البردى وأبقيه معلقاً على جدران حياتي وحينها ستشهد سنوات عمري متى اجترحتُ إثم الكتابة وأصبحت أسيرة خلف أسوار المعاجم ، مشدودة باللغة وسيصدر التاريخ عليّ حينها حكماً مؤبداً بالخلود". فرحة مختلفة ويستذكر الشاعر "سلطان السبهان"، الحائز على بردة إمارة الشعر في برنامج أمير الشعراء في موسمه الثامن فرحة كتابة نصه الأول واكتشاف شاعريته قائلا: أستطيع أن أتذكر ذلك اليوم، يوم أن وجدت نفسي ممتلكاً للقدرة على الوزن، إنها فرحة مختلفة ونشوة لا تعادلها نشوة، تشبه فرحة القدرة على قيادة السيارة، يود أحدنا لو يلوّح للعالم كله أنه يستطيع فعلها. كانت الثقة بذلك المنجز الصغير كبيرة جداً، طبعاً لم يكن يوجد في ذلك المنجز إلا الوزن فقط!، الوزن الذي طالما سحرني وكنت أراه أبعد ما يكون وأصعب ما يكون، الآن هو بين يديّ أملأه بالكلمات التي قد لا تكون منسجمة تماماً مع بعضها، النص الأول كان محافظاً تماماً على الشكل، مكتملاً من ناحية استيفائه لعدد الأبيات التي كنت أظن أنه مهم جداً، لا أنسى المقدمة الطللية التي بدأت بها كامرئ القيس، والمحبوبة التي تغزلت بها ولا فرق بيني وبين عنترة إلا أنني ما كنت أدري من هي تلك المحبوبة حتى اليوم، والحكمة التي حاولت أن أصوغها كما يفعل زهير، كانت تجربة تبعث على الانتشاء، جعلتني على صغر سني وقتها أشعر بأني شكسبير، واثق الخطوة أمشي ملكًا". وأضاف: "لكن شيئاً ما في داخلي يحس بالقلق والتوتر، ويصيح بصوت لا يكاد يسمع، بأن الدرب طويل والأمر شاق والثقة لم يحن وقتها بعد، كنت أسمعه وأنصت له حين أكون لوحدي، وفي مقاعد الدراسة وبين الزملاء، يكتشفون أنني كتبت شيئاً فيخبرون الأستاذ فأخجل ولا أقول شيئاً، وأغضب على من فعلها غضباً ممزوجاً بالنشوة، فالنص لا يفارق جيبي، والثقة تبدأ بالتقلص شيئاً فشيئاً، وأنا أريد أن أكتب شيئاً آخر لكنني أحب نصي الأول الذي بدأت تظهر عليه بعض الندوب التي رمى بها النقد عليه، وأخشى من النص التالي. النص الأول هو تدشين مشروع الإنسانية والإحساس في داخلي، عرفت يومها أنني أملك إحساساً أعلى من غيري، كمن يكتشف قوة وموهبة وعطيّة من الله له يجب أن يستغلها ويغيّر العالم، ممتن جداً للنص الأول وأشعر بدفء كبير حين أتذكره وأدخل في دائرة تلك الأيام من جديد، ممتن له لأنه علمني كيف أفخر بنفسي وأدافع عن منجزي وإن كان صغيرًا، وممتن له لأنه كان دليلي الأول على أنني حي وأتنفس وأشعر، لن أنساه طبعاً، لن أنساه كحالة وشعور، وإن كنت نسيت أكثر كلماته". ندم متأخر للشاعرة "هند عبد الرزاق المطيري" رأي آخر، حانق نوعا ما على الشعر، وليس هذا بغريب على الشعراء، فقد يتنكرون للشعر أو يتنكر لهم إيذانا ببدء مرحلة جديدة أكثر توهجا في مسيرتهم الشعرية، تقول المطيري: قد يبدو هذا الرأي غريبا، ولكنني بالفعل نادمة على كل ما نشرته من أعمال إبداعية حتى اليوم. وربما لم أعد فخورة بتلك الأعمال أيضا، ولا حتى أمتلك الرغبة في نشر المزيد، ربما يعود هذا الموقف لأسباب شخصية وانفعالات عاطفية، لكنها ممتدة ولا تزول، حتى أني تمنيت لو صرفت شعوري وفكري في الإنجازات العلمية والبحثية، التي أراها أكثر نفعا وأعظم فائدة للإنسانية. في الفترة المبكرة من حياتي أخذتني صبوة الشعر إلى عوالم القصيدة، فكنت أستظل بظلها كلما أمطرني الشعور، وعصفت بي اللواعج، لكن بمرور الوقت شاخت تلك الشجرة وتيبست أغصانها، فما عاد ظلها يقيني، ولا عاد حضنها يحتويني. لذا اعتزلتها، ولم أعد حفية بها. نعم اعتزلت غواية الشعر، وصار النص الأول عندي كالنص الأخير، شظايا قلب محترق، لا تحمل للإنسان ولا للحياة إلا مزيدا من الاحتراق، لذا أنصحكم بعدم القراءة. رغبة إبداعية الشاعر والروائي "سعود الحمد"، يرى أن للنص الأول مكانته وجمهوره، حيث يقول: النص الأول أو الكتاب الأول، لا يعبر عن الموهبة وحدها، لكنه يجسد بصورة أعمق رغبة هذا الكاتب وإرادته في السير في هذا الطريق. أعرف أن هذه الرؤية الجامدة تظلم عنفوان البداية ونشوة النشر الأول، قياسًا بتلك المرحلة العمرية والفكرية، ومرحلة الاحتفاء والشعور بأنك بلغت قمة المجد، لكن بعد سنوات يتمنى الكاتب لو أنه تأخر في إصدار عمله الأول حتى ينضج أكثر، والحقيقة أنه لا خيار للكاتب سوى الظهور بالنشر الأول المتواضع حتى يرسم لنفسه خط انطلاق، بدلًا من انتظار النضج المتأخر كالعادة، أظن أنه لا يوجد كاتب يكون عمله الأول أجود من أعماله في المنتصف، مع الإشارة إلى أنه كان يسهل نسيان العمل الأول للكتاب القدامى، لصعوبة الاطلاع عليه، أما نحن في هذا العصر فمحظوظون وغير محظوظين، محظوظون أن أعمالنا الأولى تلاقي أصداءً بسبب وسائل التقنية والتواصل، وغير محظوظين لأن أعمالنا الأولى لا يمكننا الهرب منها بسهولة، لأنها أصبحت محفوظة في كثير من المواقع على الشبكة ، بعد كل هذا أعتقد أن العمل الأول على ركاكته لا يستحق التنكر الكامل مني، لأني اكتشفت أن له شريحة قراء تناسبه ويناسبها ، يصلني تسجيل إعجابهم به ويعيدون حساباتي نحوه، لعل هذا ما أسميه كبرياء النص ، حين يثبت أنه ولد ليبقى وليتمسك بألقه الأول رغم تنكر مؤلفه له. القصة الأولى أما القاص "جبير المليحان" فيقول: "لازلت أذكر أول نصٍ لي؛ فقد قدمت العام الماضي من مدرسة القرية، وكنت قد التهمت كل كتب المدرسة القليلة، كما قرأت كل كتب والدي رحمه الله، وأغلبها تفاسير، وتفسير أحلام، وما يتعلق بتوزيع الإرث، لكن ما فتنني هو كتاب سيرة بني هلال الكبرى الذي لاحظ والدي شغفي به، فقال: هو لك!، كانت هدية أوصلت سعادتي إلى قمم أجا وأبواب السماء، وفي المرحلة المتوسطة كانت مكتبة المدرسة كبيرة وواسعة، وعندما دخلتها أصبت بالخوف؛ من جاء بكل هذه الكتب؟ ومن كتبها؟ ومن قرأها؟ وأذكر أنني كنت من زوار المكتبة الدائمين، أقرأ كل شيء، وفي البيت حيث كنت أعيش مع إخوتي الذين يدرسون في المعهد الديني، وأنا في السنة الثانية المتوسطة، أذكر أني سحبت دفتري الصغير المخطط وكتبت نص (حلم يتحقق) ولا أدري لم خفت؟ ودسست الدفتر تحت مخدتي، وخرجت للعب مع أقراني، الوقت عصرًا وإذا بصديقي وجاري في السكن ـ أحد سكان قريتي ـ البدوي، الذي يلبس القميص والبنطال قادمًا من الكويت، ويدرس المرحلة الثانوية، ويمدني أحيانًا ببعض أعداد مجلة (العربي) يأتي بعرجته المعروفة إلى الملعب وينادي على بأعلى صوته، وعندما اقتربت كانت ابتسامته تملآ وجهه وهو يمد لي يده ويهز يدي الصغيرة مرددًا: مبارك. مبارك. علت الدهشة وجهي وتجمع الأولاد حولنا فقال: أنت كتبت قصة!، لم أفهم وهو يشرح لنا عن القصة وأنواعها وكتابتها، ولكنه طلب مني أن أرسلها إلى برنامج (مع الشباب) الذي يذاع يوم الجمعة كل أسبوع. أرسلت القصة ونسيت". وتابع: "في الإجازة الصيفية كنت في مجلس والدي حيث يُعِدّ بعد الصلاة القهوة، ويحضر أصحابه وبعض من يعرفونه من البدو. وكنت مكلفا بصبّ القهوة للحضور حسب الطريقة التي علمني إياها والدي. كان جهاز (الراديو) يبث من إذاعة الرياض برنامج مع الشباب، والمذيع يقول: قصة العدد ثم يذكر اسمي ، أول من رفع رأسه باسمًا كان أبي، ثم بقية الرجال، أما أنا فارتبكت، وتقدمت بهدوء ووضعت دلة القهوة بالقرب من والدي، والفناجيل في الطاسة، واستدرت راكضًا إلى رحاب المزرعة؛ بين النخيل ، وأنا مسكون بخوف ورعدة فرح وأشياء أخرى لا أعرفها. لكني تصورت أن مزرعتنا الكبيرة ضيقة، واستمر حلمي بالكتابة حتى الآن، وفيما بعد، بعد تخرجي وتعييني معلما في الدمام نشر نفس قصة (حلم يتحقق) أستاذنا الشاعر الكبير محمد العلي المشرف على الملحق الأدبي في جريدة اليوم، للأسف ليس لدي نص تلك القصة، لكني سأستمر بكتابة القصص بحثًا عنها حتى أجدها!". عرفانٌ لا يُنسى أما الشاعر "علي الأمــير" فيقول: "تظلّ الجامعة وسنوات الدراسة الأولى فيها هي المنعطف الأكثر خطورة في طريق الحياة الممتد، كونها المنعطف الحافل بصنوف الدهشة، والحافل ببريق الآمال، وغصص الآلام، حين يكون الطموح موجة توشك أن تتكسّر على صخور الواقع تارة، وأن تقفز لشاطئ الأمان تارة أخرى، والقلب الفتيّ متأيّنٌ كلّه؛ في حالة هيجان مستمر. الحركة، الكلمة، اللفتة، حتى الورقة تسقط من شجرة على الرصيف، سيحمل صداها إلى دفتره ، وحين يكتب فيه خاليًا، سيأخذ كل هذا وذاك في الاعتبار"، وتابع الأمير: "كنت في سنتي الجامعية الأولى، ودفتري الذي كنت أسميته (دموع وشموع) لا يفارقني، كان قد ازدحم بالمحاولات الشعرية، والقليل من الخواطر النثرية، عندما عرفتُ أنّ الدكتور صابر عبد الدايم، الذي يدرسّني أدب صدر الإسلام، شاعرًا وله ديوان مطبوع اسمه (المسافر في سنبلات الزمن)، وفي نهاية إحدى المحاضرات، ناولته في تردّد بالغ آخر محاولاتي التي كان عنوانها (الفضيلة)، وانصرفت مسرعًا". وأكمل: "كانت عبارة عن محاكاة لنونيّة ابن زيدون (أضحى التنائي بديلًا من تدانينا) ولمعارضة شوقي (يا نائح الطلح أشباه عوادينا)، وفي اليوم التالي وبعد المحاضرة، وجدت الدكتور صابر يناديني وهو يجمع أوراقه، ثم يأخذني من يدي إلى مكتب رئيس قسم الأدب والبلاغة والنقد، الدكتور محمد مريسي الحارثي، الذي وجدنا مكتبه يغصّ بأساتذة القسم، وهناك أخرج أستاذي القصيدة، وقال لي اقرأها أمام أساتذتك، وبعد تمنّع المتفاجئ، وتردّد المستحي، بدأتُ أقرأ: يا نائح الطلح كم هيّجت ما فينا وكم كتمنا ولم تكتم مآقينا ناشدتك الله من قلبٍ تملّكه همٌّ وحزنٌ وأنفاسٌ براكينا أن ترفع الصوت عن أسماعنا كرمًا فما مصابك إلا بعض ما فينا أبصرتها في سفوح المجد مجهدة تنوي الصعود وما مدّت أيادينا إلى نهاية القصيدة، حينها صفقوا جميعهم تشجيعًا لي، ما عدا واحد (رحمه الله) أشاح بوجهه عني، وهو يقول: اسألوه من أي كتاب سرقها، وأمام حجم الإهانة التي شعرت بها، وهي تحزّ نشوتي بالتصفيق حزًّا، وتسفك فرحتي، وجدتني أقول: أنا لست سارقًا وعلى الدكتور(...) أن يثبت اتهامه لي أمامكم ". وتابع الأمير: "بعد أيام قليلة، يدخل علينا الدكتور صابر المحاضرة، وهو يحمل معه عدداً أخيرًا من (المجلة العربية)، كان ينظر إليّ بفرحة جهد وهو يُداريها، ولم يجد بدًّا من أن يُبشرني في المحاضرة أمام الطلاب، أنّ قصيدتي منشورة في المجلّة، ولشدة استعجالي وكثرة تلهّفي لمشاهدة اسمي وكلماتي في المجلة، وهي تنشر لأول مرّة ، بدت لي تلك المحاضرة أطول محاضرة في التاريخ، وسأظلّ إلى ما بعد الأبد، مدينٌ لأستاذي الدكتور صابر عبد الدايم يونس، فهو أول من شجعني ووضع قدمي على طريق النشر". فرحة منقوصة الشاعر "أحمد السيد عطيف" يتذكر أول مرة يرى فيها اسمه في وسيلة إعلامية، فيقول : "كانت في عام 1978م، وتحديدًا في صفحة القراء في مجلة إقرأ السعودية، كنت في الصف الأول الثانوي حين أرسلت النص للمجلة، لكني ومع انتظاري لم تكن المجلة تصل بانتظام إلى محافظتنا ، وبعد شهور وجدت المجلة عند قريب لي وفيها نصّي، لكن اسمي كان مكتوبا بالخطأ (أحمد محمد عطيف)، وهو اسم قريبي هذا، بينما اسمي هو أحمد يحيى محمد عطيف كما أرسلته لهم، فكانت الفرحة ناقصة، وكنت في عمر لا يؤهلني للشعور بفرحة النشر وتحفيزه المشجع"، ويتابع: " لم أرسل أي نص إلى أي وسيلة إعلامية حتى بعد تخرجي من الجامعة بست سنوات، وفي حرب تحرير الكويت 1990م، نشرت لي جريدة الرياض لكن ما انتقص فرحتي مجددًا هي مناسبة الحرب وظروفها، وبعده نشرت قليلا في المجلة العربية، ثم بعد سنوات أرسلت قصيدة لصحيفة عكاظ، التي كانت تمثل واجهة شعرية مشهورة لكبار شعراء المملكة، فنشروه لي بإخراج مشجع جدا وكان عنوانه (ميقات الهوى)، كان ذلك في عام 1995م، وكنت في الثالثة والثلاثين من عمري، ومعه شعرت بمعنى تحفيز النشر، وأيضا بمسؤولية ما بعده ، وما زلت أحتفظ بالجريدة حتى يومنا هذا". يضيف عطيف: " الحقيقة أنني لم أكن منذ بداية محاولاتي أتطلع لأن أكون شاعرًا معروفًا أو أتطلع يومًا لطباعة ديوان كما يفعل أصحابي من الشعراء، وظللت أنشر في الصحف على فترات متباعدة، وأشارك في الأنشطة الثقافية الشعرية أحيانا في السعودية، ومكتفيا بذلك حيث أصبحت معروفًا بشكل يرضي تطلع شخص مثلي، ولم أطبع ديواني الوحيد حتى الآن (زجاج) إلا في عام 2011م، عندما قاربت على الخمسين من عمري، وأعدت طباعته في 2016م"، وأضاف عطيف: "إن الفرحة التي شعرت بها بنشر محاولتي الأولى في مجلة اقرأ هي الأعمق والأبقى لكنها لم تحفزني، وفرحتي بقصيدتي الأولى في عكاظ كانت هي التي حفزتني بقدر ما جعلتني حذرًا ومسؤولًا أمام الشعر، أما الآن ففي هذا العمر ومع أني مقلٌّ شعريًا، فإني أشعر أن كل قصيدة جديدة هي محطة أولى وأن نشرها هي محطة أولى بذات المشاعر الأولى".
مشاركة :