القاهرة: الخليج يمتلك عبدالهادي الجزار سحراً لا يخبو بريقه، بل يتجدد مع الزمن، فعبقريته سبقت زمانه، وامتدت شهرته إلى العالم الخارجي، حتى بلغت أسعار لوحاته في بورصات الفن الملايين، وربما يعود ذلك إلى أن الموت اختطفه وهو في العراق في الأربعين من عمره، وهو في ذروة عطائه الفني، بعد أن حقق طفرة كبيرة في حركة الفن التشكيلي، حلت المعادلة الصعبة- على حد تعبير عز الدين نجيب- التي عجز جيل الفنانين الثوريين عن حلها. كان الجزار نجم جماعة الفن المعاصر بجانب حامد ندا، وسمير رافع، وماهر رائف، وآخرين، حتى وهم تلاميذ في المدرسة الثانوية، قبل أن يلتحقوا بكلية الفنون الجميلة، ويرعاهم حسين يوسف أمين إلى ما بعد تخرجهم بسنوات، ولا تزال بصمات تلك الجماعة مطبوعة على أعمال بعض رموز فنان جيل التسعينات وأصبح لهم الفضل في تأسيس ملامح الشخصية العربية في حركة الفن الحديث. وفي هذا الكتاب عن عبدالهادي الجزار تتبع المؤلفة عديلة عصمت تحليل أعمال وشخصية الجزار، وقد ركزت في دراستها على المحور الرئيسي في أعماله، وهو محور الحياة الشعبية، بموروثها الخرافي والأسطوري وبارتباطها بمفاهيم الإنسان البسيط المثقل بالعادات والتقاليد والجهل والقيم السلبية، في واقع طبقي ظالم، يسحق الفقراء ويدفعهم إلى الحياة في شبه غيبوبة. استغرقت أعمال المراحل الأولى للجزار أغلب اهتمام الباحثة، فركزت على الظروف القهرية لحياة الشعب، التي عبر عنها الجزار قبل ثورة يوليو/تموز 1952، ثم في السنوات الأولى من الخمسينات كامتداد لتلك المراحل، وهو ما جعل مراحل اليقين عن إنجازات الثورة، وأعمال مرحلة القضاء، ومرحلة الإيمان بالعلم والمستقبل، تبدو هامشية في هذه الدراسة بالنسبة للمراحل الأولى، وهي لم تفعل ذلك كموقف يجعلها ترى المراحل الأخيرة أقل مستوى من مراحله الأولى، كما يحاول البعض تأكيده حتى بلغ بهم الأمر اتهامه بالدعاية بفنه لنظام ثورة يوليو/تموز، ومن ثم وصفوه بالفن الدعائي على عكس الحقيقة التي تشهد بها أعماله قبل الثورة وبعدها. وأغلب الظن- كما يقول نجيب - إن الكاتبة قصدت أن يكون جانب الميثولوجيا الشعبية هو محل تركيزها البحثي ليكون أكثر عمقاً وتحليلاً، مع عدم إغفالها الجوانب البارزة في الأعمال الأخيرة، بل تناولتها في سياقها التاريخي. توضح المؤلفة أن المرحلة الشعبية هي المرحلة التي استلهم فيها الجزار التراث الشعبي واستخدم عناصر منه ورموزاً في أعماله، وفي تلك المرحلة ظهرت أعماله، ونجح في الغوص في اللاشعور الجمعي للحياة الشعبية، كما أنه خلال تلك المرحلة دأب على الذهاب إلى الأماكن الشعبية والتفاعل مع سكانها، فقد كان مهتماً بمعرفة تأثير المعتقدات الشعبية والعادات والتقاليد، وتأثير الدين في تفكير أفراد الجماعة الشعبية وتفاعلهم بعضهم مع بعض. لقد نجح الجزار في امتصاص الحياة الشعبية بكل تأثيراتها ثم إفرازها في خلق فني جديد، يحمل طابعه الخاص، الذي يشع بإحساسه بالمجهول، فقد عبّر عن كثير من المفاهيم بالرموز ذات الدلالات الشعبية، وكذلك في موضوعات أعماله التي تصور واقعاً اجتماعياً كشريحة من الشعب تعيش بغرائزها البدائية الفارقة حتى في استخدامه الألوان كان يتمتع بحس عالٍ لرمزية الألوان عند المزاج الشعبي، وكانت تلك المرحلة من أخصب مراحل حياته.
مشاركة :