من سقط في حلب؟ حلب لم تسقط. من سقط كان الدب الروسي والنظام الايراني وميليشياته المذهبية اللبنانية والعراقية والافغانية... وتركيا ـ رجب طيب أردوغان. الساقط الأكبر، الى جانب أوروبا طبعا، يبقى باراك أوباما الذي لم يستطع ان يكون رئيسا للقوة العظمى الوحيدة، بل فضّل بيع الاوهام للسوريين والتخلي عن كلّ المبادئ التي آمنت بها الولايات المتحدة منذ عهد جورج واشنطن. ستعود حلب الى أهلها في يوم من الايّام، لا لشيء سوى لانّ احتلال المدينة امر غير طبيعي يرفضه العقل ومنطق التاريخ والجغرافيا. ستعود حلب، مثلما عادت كلّ المدن التي اجتاحتها في يوم من الايّام الدبابات السوفياتية. ستعود الى الحرّية، مثلما عادت بودابست ووارسو وبراغ وبرلين... سبق لحلب، المدينة العريقة ان تعرّضت، على مرّ الزمن، لنكبات كثيرة. لكنّها استطاعت في كلّ مرة، حتّى عندما غزاها المغول، استعادة عافيتها ووضعها الطبيعي كاحدى اهمّ المدن العربية التي تتمتع بمزايا خاصة، في مقدّمتها التنوع الديني والثقافي والاتني. حسنا، سيطرت القوات التابعة للنظام السوري على حلب بدعم واضح من ميليشيات شيعية مدعومة من ايران وذلك بعدما لعب فلاديمير بوتين الدور الرئيسي في تدمير المدينة على أهلها مستخدما سلاح الجوّ الروسي من جهة والعلاقة القائمة مع تركيا من جهة اخرى. كان التخلي التركي عن حلب نقطة التحوّل التي اعادت المدينة المدمّرة الى سيطرة «شبيحة» النظام والميليشيات المذهبية الداعمة له. كان ذلك في الصيف الماضي عندما تعرّض رجب طيب أردوغان لمحاولة انقلابية جعلته يعيد حساباته الداخلية والإقليمية والدولية. حدث ذلك في وقت لم يجد رجب طيب أردوغان غير فلاديمير بوتين يطمئنه الى مستقبله، في حين لم تترك إدارة باراك أوباما فرصة الّا واظهرت رغبتها في ان تتنكر لصداقتها القديمة لتركيا التي كانت رأس الحربة لحلف شمال الأطلسي إبان الحرب الباردة. كلّ ما في الامر ان تركيا وجدت نفسها مهدّدة بالورقة الكردية، إضافة الى خشيتها من سياسة أميركية معادية. خلال فترة قصيرة ارتبطت تركيا بشبكة من المصالح مع روسيا، كما حسّنت علاقتها بايران. كان الرئيس التركي يقول، الى ما قبل فترة قصيرة، انّ حلب «خط أحمر». اكثر من ذلك لم تتردد تركيا في يوم من الايّام في النظر الى تلك المدينة من زاوية انّها منطقة نفوذ تابعة لها. ما الذي حصل عمليا وجعل تركيا تستسلم أمام الرغبة الروسية في تدمير حلب والسماح للقوات التابعة للنظام بارتكاب مجازر فيها واستكمال عملية تهجير قسم كبير من أهلها؟ الجواب بكلّ بساطة ان الظروف الإقليمية والدولية جعلت رجب طيّب أردوغان يعتمد أولويات جديدة مختلفة تماما، أوصلته الى إعادة العلاقات مع إسرائيل واستعادة التنسيق معها في وقت هناك غرفة عمليات مشتركة روسية – إسرائيلية مخصصة للوضع السوري والتعاون العسكري بين الجانبين... مع ميليشيات مذهبية تابعة لإيران على الأرض. من اللافت ان عملية إخلاء المسلحين التابعين للمعارضة تتمّ بموجب اتفاق روسي ـ تركي، ولكن من دون ان يمنع ذلك ارتكاب مجازر في حق مدنيين من اهل المدينة وسوق الشبان الى الخدمة العسكرية الاجبارية. وهذا يعني في طبيعة الحال اجبار هؤلاء الشبان السنّة من أبناء حلب على ان يكونوا في الخطوط الاولى لدى اندلاع أي معارك. مصيرهم الموت الحتمي اذا قاتلوا والاعدام رميا بالرصاص اذا رفضوا ذلك! أدار العالم ظهره لحلب التي صمد أهلها اربع سنوات في وجه النظام وحلفائه. ذهبوا ضحيّة سياسة باراك اوباما والوحشية الروسية والاطماع الايرانية ورغبة النظام في التخلّص من المدن السورية الكبيرة او تدجينها. أصبحت دمشق مدجّنة، هي واللاذقية، فيما قُضي على حمص وحماة وحلب. كشفت حلب حقيقة فلاديمير بوتين الذي عرف كيف يستغلّ باراك أوباما. ادرك في اليوم الذي تراجع فيه الرئيس الاميركي عن استخدام القوّة ردّا على لجوء بشّار الأسد الى السلاح الكيميائي انّه قادر على القيام بما يشاء. كان ذلك صيف العام 2013. في ذلك الصيف ظهر باراك أوباما كرئيس ضعيف لا همّ له سوى استرضاء ايران. خاف أوباما من فشل المفاوضات في شأن الملفّ النووي الايراني ولم يخف على السوريين الذين كانوا يتعرّضون لكلّ أنواع القصف لمجرّد انّهم طالبوا ببعض من حرّية وكرامة ورفضوا البقاء تحت نير نظام اقلّوي يصرّ على استعبادهم وسلب خيرات بلدهم. لم يحصل في تاريخ الولايات المتحدة ان كان هناك رئيس بهذه النفسية المريضة. يتحدث أوباما عن المبادئ الانسانية ويعمل كلّ ما يمكن ان يقضي على هذه المبادئ ويسيء اليها. يعمل ببساطة على العكس تماما مما يقوله... نجح فلاديمير بوتين في وضع الإدارة الاميركية الجديدة امام امر واقع في سورية. دمّر حلب واعادها الى كنف النظام والميليشيات التابعة لإيران. حيّد تركيا في الوقت ذاته. ما هذا الانتصار الذي يرفع فيه علم النظام على أشلاء مدينة سورية؟ إذا كانت كلّ انتصارات النظام السوري من هذا النوع، فما هي الهزائم؟ لا وجود لهزيمة اكبر من ان ينتصر نظام على شعبه. الانتصار على حلب هو الهزيمة بعينها. لو كان الشعب السوري مع النظام، لما كانت حلب قاومت طوال اربع سنوات الحصار والتجويع في ظلّ قصف مستمرّ طاول المدارس والمستشفيات وبيوت الناس العاديين بحجة انّ كلّ سوري إرهابي. من لديه ادنى شكّ في انّ حلب ستنتصر، مهما طال الزمن، يستطيع العودة سنوات قليلة الى خلف. قاومت حلب النظام العلوي منذ أواخر سبعينات القرن الماضي. كذلك قاومت حماة التي ازيل قسم منها في العام 1982 وما زالت تقاوم. هل تغيّر شيء بعد ما يزيد على ثلاثة عقود على مجزرة حماة؟ يزرع الانتصار على حلب ونقل قسم من أهلها الى مناطق قريبة من الحدود التركية البذور لمزيد من الحروب السورية في مرحلة لا مكان فيها سوى للاسئلة. الثابت الوحيد هو ان النظام السوري انتهى الى غير رجعة. انّه نظام يأتي بالروس والإيرانيين وتوابعهم للدفاع عنه. أي مستقبل لنظام من هذا النوع في منطقة تشهد تحولات في العمق ولا تزال تعيش في ظلّ ترددات الزلزال العراقي الذي نتج عن الاجتياح الاميركي للبلد في ربيع العام 2003 والذي كان من نتائجه تقديمه على صحن من فضّة الى ايران... تبدو حلب بداية وليس نهاية في الصراع على سورية الذي كشف أيضا مدى الجبن والعجز الاوروبيين ومدى الغياب العربي لمصلحة اللاعبين الأربعة: الروسي والايراني والتركي والإسرائيلي.
مشاركة :