بغداد، واشنطن أ ف ب حدَّدت الهجمات البرية والجوية المتلاحقة من رقعة سيطرة «داعش» في سوريا والعراق بشكلٍ كبير. لكن التنظيم الإرهابي ما زال يشكِّل تهديداً كبيراً على مستوى العالم. وخسر عناصر «داعش» سيطرتهم على قرابة نصف المناطق التي احتلوها في 2014. وأكبر هذه الخسائر وقع خلال 2016 مع تضافر جهود دولٍ عدَّة في محاربتهم، وذلك في إطار التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن. وخسر التنظيم معاقل رئيسة مثل الفلوجة في العراق ودابق في سوريا، ما كشف عدم قدرته على الدفاع عن مواقع شغلت مكانةً مهمةً في حربِه الدعائية. وطُرِدَ عناصره كذلك من مدينة الرمادي، عاصمة محافظة الأنبار (غرب العراق)، ومنبج في سوريا، وهما منطقتان استراتيجيتان وحاسمتان في ضمان التواصل الجغرافي للأراضي التي يحتلونها. وفي ليبيا؛ أُخرِجَ التنظيم في وقتٍ سابقٍ هذا الشهر من مدينة سرت، معقله الرئيس في دولةٍ كان يعدها منطلقاً لتوسعه. وفي الـ 17 من أكتوبر الماضي؛ انطلق عشرات الآلاف من الجنود العراقيين، بمساندة قوات التحالف الدولي، لتنفيذ عمليةٍ واسعةٍ لاستعادة الموصل، وهي المدينة التي شهدت قبل عامين ونصف العام إعلان زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي قيام ما زعم أنها «دولة خلافة». وفي حين تبدو المعركة صعبةً داخل المدينة عبر الشوارع المفخخة ومع انتشار القناصة؛ إلا أن خسارة التنظيم لمعقله أمرٌ غير مشكوك فيه. في موازاة ذلك؛ بدأ هجومٌ مماثل في اتجاه مدينة الرقة، المعقل الرئيس للتنظيم في سوريا وموقع معركته الأخيرة هناك على الأرجح. واعتبر أستاذ الجغرافيا السياسية الشرق أوسطية في باريس، ماثيو غيدير، أن تحرير الرقة يعني نهاية مشروع «بناء الدولة» بالنسبة لـ «داعش» و»خسارة ما يرمز إلى الدولة». هجمات إرهابية ورغم الكميات الكبيرة من الأسلحة الحكومية التي استولى عليها عناصر التنظيم والرعب الذي بثّوه عبر فظائع ارتكبوها واستخدموها في دعايتهم؛ فإن توسعهم توقَّف وباتوا محاصرين. وقُتِلَ منهم، وفق وزارة الدفاع الأمريكية، ما لا يقل عن 50 ألف مسلح منذ 2014، وهو ضعف العدد المُقدَّر سابقاً لمقاتلي التنظيم. وأعلن قائد قوات التحالف الدولي، الجنرال ستيف تاونسند، الأربعاء الماضي «تم تحرير حوالي 3 ملايين شخص وأكثر من 44 ألف كيلومتر مربع من سيطرة الجهاديين في عام 2016». لكن لا يزال هناك نقصٌ في التنسيق بين مختلف القوى التي تحارب التنظيم، في حين يخوض مسلحوه قتالاً عنيفاً في الموصل (عاصمة محافظة نينوى). وتشكِّل تكتيكات حرب الشوارع التي ينفذها «داعش» والمخزون الذي لا ينتهي من الانتحاريين تهديداً يخشاه حتى أفضل العناصر تدريباً وتجهيزاً. ونفَّذ التنظيم الإرهابي هجمات «تضليل» في كلٍ من العراق وسوريا سعياً إلى توسيع رقعة المواجهات والحفاظ على بعض التقدم، إعلامياً على الأقل. وشنَّ مسلحوه، قبل فترة قصيرة، هجوماً واسعاً على مدينة كركوك الغنية بالنفط والخاضعة لسيطرة حكومة إقليم كردستان (شمال العراق)، كما سيطروا مجدداً، في وقت سابق من هذا الشهر، على مدينة تدمر السورية. وحذَّر مراقبون مراراً من أن استعادة أراضٍ من التنظيم لا تعني نهايته؛ لأنه قد يستفيد من عدم الاستقرار في العراق وسوريا لتنفيذ هجمات جديدة. ولاحظ غيدير أن «عام 2016 شهد اندحار التنظيم. لكن نفوذه مازال كبيراً في غياب حل سياسي في الأفق () خصوصاً فيما يتعلق بالسكان السنة في كلا البلدين». وقد يكمن الأمر الأصعب في مواجهة بقايا عناصر التنظيم بعد انضوائهم في جماعات مسلحة سرية تنفذ هجمات إرهابية. وتبقى هناك خشية من عودة المتطرفين الأجانب المهزومين، فهم يمثلون مصدر قلق كبير، خصوصاً بعدما شهد العام الحالي هجماتٍ تبنَّاها «داعش» أو أوحى بها في أمريكا وفرنسا وبلجيكا.ومطلع الشهر الجاري؛ ذكرت مجموعة «صوفان غروب» الاستشارية أن «هذا التنظيم يتخذ التدابير اللازمة للبقاء بعد خسارته لمناطق سيطرته، معتبراً مثل هذه الخسائر انتكاسات مؤقتة في العراق وسوريا». ويعتقد خبراء أن الخطر الذي يشكله المسلحون العائدون من مناطق «داعش» كبيرٌ وسيبقى قائماً لفترة طويلة. وتتحدث تقديرات غربية عن 25 أو 30 ألف مقاتل أجنبي التحقوا في السنوات الأخيرة بمناطق سيطرة التنظيم. وفيما قُتِلَ بعضهم وما زال آخرون يقاتلون؛ تتسارع وتيرة عودة بعض هؤلاء إلى بلدانهم الأصلية بالموازاة مع تراجع تنظيمهم ميدانياً أمام هجمات التحالف الدولي. ورأى ألبرت فورد من مؤسسة «نيو أمريكا» أن «تدفق المقاتلين الأجانب (على مناطق التنظيم) الذي بلغ في العام الفائت حوالي ألفي شخص شهرياً نضب فعلياً () لكن هذا ليس إلا جزءً من الموضوع»، متسائلاً «ما العمل عند عودة 25 إلى 30 ألف شخص موجودين حالياً في سوريا أو مروا بها إلى بلدانهم؟ هذه المشكلة لن تتلاشى قريباً». وفي الثمانينيات؛ بلغ عدد المتطوعين العرب للقتال ضد القوات السوفييتية في أفغانستان أرقاماً مشابهة. وبعد هزيمة «الجيش الأحمر»؛ شكَّل «الأفغان العرب» نواة عددٍ من الجماعات المسلحة والحركات الجهادية فيما نفذ آخرون اعتداءاتٍ في دول عدّة. ورأى حوالي 20 خبيراً أمريكياً، في تقريرٍ بعنوان «الخطر الجهادي» نُشِرَ الإثنين الماضي، أنه «ما إن يدخل عددٌ من المقاتلين الأجانب حالة التعبئة؛ فإن من الصعب جداً إبطالها». تصوير رومانسي للتطرف وجاء في التقرير «من المؤكد أن المقاتلين الأجانب الذين بَطُلت تعبئتهم سيواصلون لعب دورٍ في الحركات المتطرفة المعاصرة بصفة داعمين أو وسطاء، ولو أنهم لم يعودوا يقاتلون هم أنفسهم». وفي أوروبا؛ كشفت جلسات الاستجواب التي نفذتها أجهزةٌ متخصصة أو المقابلات الصحفية أن عدداً كبيراً من المتطرفين العائدين من سوريا أو العراق بقِيَ على قناعات راسخة رغم تأكيده الإحجام عن العنف. واعتبر المحلل النفسي والعميل السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، مارك سيدجمان، أن «القضاء التام على تنظيم داعش ميدانياً لا علاقة له إطلاقاً بما سيحدث في الدول الغربية». وأوضح «سيبقى أفراد يعتبرون أنفسهم جنوداً لهذه الجماعة المتطرفة وفق تصورهم لها وسيسعون إلى تنظيم اعتداءات» و«فيما يتعلق بشبابٍ غادروا إلى هناك نتيجة قرار طائش لانجذابهم إلى تصوير رومنسي للتطرف؛ تكمن المشكلة في تجنب دفعهم نحو الإرهاب عبر سياسة قمعٍ مفرط». ضرورة مواصلة المراقبة وتابع سيدجمان متأسفاً «لكن في جميع البلدان باستثناء هولندا والدانمارك ربما؛ حان وقت التعامل بحزم مع المقاتلين السابقين. فالسياسيون لا يسعهم أن يسمحوا بنفاذ أحدهم من ثقوب شبكة المراقبة لينتقل إلى التنفيذ». في ذات الإطار؛ رأت كاثرين زيمرمان من مجموعة الأبحاث «أمريكان إنتربرايز إنستيتيوت» أن المقاتلين السابقين في سوريا والعراق، الذين بدأوا يأخذون طريق العودة بالمئات وقريباً بالآلاف، يطرحون مشكلة مستعصية للأجهزة المتخصصة. ولاحظت زيمرمان أن «حجم المهمة يتجاوز قدرات قوى الأمن اليوم»، مؤكدةً «هذا سيتفاقم بعد عام» نظراً إلى «ارتفاع عدد الأفراد الذين تجب مراقبتهم وستتحسن وسائل الاتصال بينهم، فيما تبقى أنشطة مكافحة هذه العوامل محدودة». وبالإضافة إلى المقاتلين السابقين في سوريا والعراق؛ أثبتت الوقائع ضرورة الاستمرار في مراقبة المتطرفين الأقدم بشكل وثيق ولو بدا أنهم عادوا عن أنشطتهم. وتقول زيمرمان «لنأخذ شريف كواشي مثالاً، أحد القتلة في شارلي إيبدو (في فرنسا). إنه كان في السجن في منتصف سنوات الألفين. وبعد خروجه استغرق الأمر سنوات كي يتحرك». بدوره؛ اعتبر نيكولاس هيراس من مركز الأمن الأمريكي الجديد أن «من الصعوبة البالغة التفريق بين الذين يعودون لأنهم فقدوا الإيمان بقضيتهم والذين يعودون لأنهم يريدون مواصلة القتال بأسلوب مختلف. لا يمكن مراقبة الجميع على مدار الساعة».
مشاركة :