الجميع بات يكتب الرواية اليوم، الشاعر والقاص والأستاذ والناقد والرسام والمسرحي وحتى الهواة، وهذا أمر جيد أن ينخرط الناس في الكتابة، التي لم تكن ولن تكون حكرا على تكوين أكاديمي أو على أناس دون غيرهم. العربمحمد ناصر المولهي [نُشرفي2016/12/17، العدد: 10488، ص(16)] هناك من النقاد من يروج إلى أن الرواية جنس أدبي ذو أصول عربية، مستشهدين أغلبهم بالأثر السردي “ألف ليلة وليلة”، الذي تتباين الآراء حوله إن كان عربيا أو فارسيا. لقد أثرت ألف ليلة وليلة بشكل فعلي في الرواية العالمية إذ تعد من الآثار السردية الخالدة، التي أسست لما بات يعرف بالنمط الواقعي السحري وأشهر رواده غابرييل غارسيا ماركيز. لكن ظهور الرواية جنسا أدبيا له مقوماته وركائزه الفنية، كان في الغرب. يرجح الكثير من الباحثين أن أول رواية كاملة الشروط والمتوافقة مع مقومات الرواية الحديثة؛ تعدد الشخصيات والحوار وحبكة الأحداث سواء منها المركبة أو النمطية، إضافة إلى المكان والزمان والعقدة، وغيرها من الخصائص. هي رواية “الحمار الذهبي” للشاعر والفيلسوف الأمازيغي، المتأثر بالثقافة الإغريقية وخاصة بأفلاطون، لوكيوس أبوليوس. نعود هنا إلى مقولة هامة نصها “ليس مهما الاكتشاف، بل المهم اكتشاف أهمية الاكتشاف”، وهنا إذن ليس مهما من كان الأول في كتابة رواية بقدر أهمية كتابة رواية مع الوعي بعناصرها وشروطها، وعي يبني عناصر هذا الجنس الأدبي ويتحرك في حدوده أو يكسرها عن دراية، لذا فإن الرواية تبلورت بشكل واع في القرن السابع عشر في أوروبا، حيث عرفت الرواية منذ ميغيل دي ثيربانتس صاحب رواية “دون كيخوت” (1615) تطورا هائلا في تقنيات كتابتها. الرواية العربية حديثة الولادة نسبيا، إذ ظهر أول الأعمال الروائية في مطلع القرن العشرين، خاصة مع رواية “زينب” لمحمد حسنين هيكل، ولو أن الكثير من النقاد راحوا يبحثون عن بداية أخرى للرواية العربية سابقة لهيكل وتعددت الآراء في ذلك، لكن ما يهمنا هنا هو أن كتابة الرواية جاءت متأخرة نسبيا في المدونة الأدبية العربية. قدمت الرواية كتابا عربا مهمين أضافوا إليها وطوروا تقنياتها ولغتها، ربما نذكر على سبيل الذكر لا الحصر إحسان عبدالقدوس وطه حسين ويوسف إدريس المصريين والعراقي فؤاد التكرلي والسوداني الطيب صالح والسعودي عبدالرحمن منيف والمغربي محمد شكري لاحقا، ولكن تبقى تجربة الروائي المصري نجيب محفوظ أهم التجارب الروائية العربية لما لها من نضج وتأسيس في تيار واقعي ببصمة عربية مصرية خالصة، ما مكنه من الحصول على جائزة نوبل للآداب وهو العربي الوحيد الذي توج بها. على قلتها ومقارنة بالتجارب الشعرية، كانت التجارب الروائية العربية لافتة تنبئ بالتأسيس لرواية عربية حقيقية، لها خصوصياتها اللغوية والجمالية، لكن تلك الجذوة خبت اليوم، رغم الكم الهائل من الروائيين والروائيات الذين اكتسحوا المدونة الأدبية العربية وصعدوا سريعا ليتربعوا على عرشها. الجميع بات يكتب الرواية اليوم، الشاعر والقاص والأستاذ والناقد والرسام والمسرحي وحتى الهواة، وهذا أمر جيد أن ينخرط الناس في الكتابة، التي لم تكن ولن تكون حكرا على تكوين أكاديمي أو على أناس دون غيرهم، بقي أننا نردد دائما أن الكتابة الحقيقية تحتاج إلى وعي خاص وهو ما يحتاج إلى دربة طويلة وقاسية، وقدرا من المعرفة الذي لا يمكن تحصيله بشكل فجئي. لا نحكم هنا على كل الروايات العربية التي من المستحيل أن يحيط بها كلها غير نبي لوفرتها، لكن من خلال عدة أمثلة تمر بنا بين حين وآخر، نرى أننا ضيعنا الطريق إلى رواية عربية، فإما أن الرواية بقيت في ما كانت عليه منذ سنواتها الأولى من لغة شعرية وسطحية الأحداث والشخصيات، وإما أنها انسلخت عن لغتها لتكتب رواية منسوخة عن أمثلة غربية لا تتوقف عن تجديد مشاربها وشكلها ومضمونها وغاياتها، وهناك شق ثالث بات يغزو سوق الكتب ألا وهو روايات الهواة التي يقدمها الناشرون إما لعلاقاتهم الخاصة بـ”كتابها” أو عن طريق دفع الكاتب للناشر وغيرها من المعاملات مع الناشرين. أهم ما يدفع الجميع إلى كتابة رواية هو الجوائز الأدبية، التي تكاثرت دون أن يكون لها مشروع ثقافي مؤسس، لذا فرغم ما لها من إيجابيات طغت سلبياتها التي أضرت لا بالرواية التي باتت تكتب للجوائز ودون تجديد فحسب، بل على الأدب ككل. إضافة إلى دور الجوائز نجد الناشرين الذين فقدوا المكانة التي كانت لهم من حيث تقديمهم للمدونة الأدبية أدبا جادا ومختلف الأجناس، فباتت دُور النشر لا تقدم غير الروايات طمعا في جوائز الرواية، التي حشدت من خلال وسائل إعلامها أغلب القراء العرب على قلتهم. إضافة إلى ذلك نجد اقتداء المهزوم بالغالب، وهو ما انتهجته المجتمعات العربية المهزوم أغلبها حضاريا مقارنة بالغرب، فإن كانت الرواية في الغرب على رأس المدونة الأدبية، فإن ذلك يعود إلى عراقتها وإلى تجددها حيث النشر صناعة تقدم جيد الأعمال من خلال شبكة المحررين ودور النشر المحترفة التي تهتم بالكيف قبل الربح، ثم إن الرواية الغربية لم تمس مطلقا بالشعر والقصة وبقية الأجناس الأدبية التي مازالت تتطور وتجد لها مكانا رغم الطفرة الروائية. الطفرة الروائية العربية في رأينا خدعة، بل لا نكون جناة إن قلنا إنها جريمة في حق الأدب العربي، تمتلك وجها مبشرا ناعما، وتخفي أدوات مدمرة لجوهر الأدب القائم على التنوع والاختلاف، منها النشر الروائي الأحادي الذي أصبح تجارة فقط، والجوائز الروائية التي حادت عن مسارها، علاوة على غياب المتابعة النقدية الرصينة، إذ بات النقد تجاريا بدوره. شاعر من تونس محمد ناصر المولهي :: مقالات أخرى لـ محمد ناصر المولهي خداع الرواية العربية, 2016/12/17 رحيل مفاجئ للكاتب العراقي حسين الموزاني في برلين, 2016/12/10 مبدعات عصاميات يلوّن المنستير التونسية بجماليات التشكيل, 2016/12/02 هل انتهى عصر المثقف الرافض, 2016/12/02 أصوات شعرية ونقدية في مهرجان للشعر العربي بمهدية تونس, 2016/11/23 أرشيف الكاتب
مشاركة :