د. عبدالله السويجي لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دوراً مؤثراً في تشكيل الرأي العام، وأن المتابع لهذه الوسائل تأسره الصورة ويقع تحت سطوتها ، إن كانت مؤلمة أو مفرحة، فيضحك مباشرة أو يغضب من فوره، دون التأكد من مصداقية الصورة إن كانت ثابتة أو متحركة، ومن دون التمحيص في مصدرها، فكل صاحب حساب على تويتر أو إنستغرام أو فيس بوك يعتبر نفسه مصدراً في ظل الجهل بحقوق استخدام المحتوى الإعلامي، ويعيد بث ما وصله دون التحقق من المصداقية والموثوقية. وبما أن هناك أناساً محترفين في صناعة الصور عن طريق البرامج الإلكترونية الكثيرة، وأهمها فوتوشوب، إلى درجة لا يمكن معها التفريق بين الحقيقة والوهم أو الفبركة، وهذا يطال أيضاً أفلام الفيديو فإن صناعة التضليل باتت رائجة، واستطاع أصحابها في كثير من المواقف والحالات التأثير في الرأي العام، فكم من صورة ثبت عدم صدقيتها، أو شريط فيديو ثبت أنه مركب، ولكن بعد أن أثار ضجة وإحساساً عارماً بالتأييد أو الاستنكار، حتى إن منظمات عالمية ومسؤولين كباراً، انطلت عليهم هذه الاختلاقات، واتخذوا مواقف مناهضة أو عدائية، وربما كانوا يحتاجون إلى دليل، ولو كان مختلقاً، ليتخذوا تلك المواقف. فبعد أكثر من نصف عقد من الزمان تغيرت سياسات كثيرة وتحالفات أكثر، وضربت بعرض الحائط شواهدها التي استندت إليها في توجيه الاتهامات. لعل هذا التضليل بدأ مع الأزمات التي يشهدها العالم العربي منذ أكثر من خمس سنوات، تضليل مسموع ومرئي ومكتوب. بعض وسائل الإعلام المعروفة خصصت استوديوهات كاملة لفبركة الأحداث والمشاهد والسيناريوهات، وبثت تظاهرات وهمية وعمليات قتل وذبح مفبركة، لتتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي، ويبدأ النحيب والبكاء، والدعوة إلى الجهاد ضد هذا النظام الطاغي أو الكافر أو المجرم. واستخدمت بعض الأنظمة أيضاً هذه الوسائل لإظهار المجموعات المعارضة على أنها إرهابية وقاتلة، وتوظف الدين لتحقيق مآربها، وغير ذلك من الاتهامات المفبركة. ليست كل المشاهد أو الأخبار مختلقة. هناك حقائق تجري على الأرض، وهناك انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان والإنسانية، من قبل الأنظمة والمعارضة والمجموعات المسلحة تصل إلى جرائم حرب، لكن أحداً لم يحاسب أي جهة كانت، وكأن المطلوب هو إغراق المنطقة العربية بالدم والتناقضات وإدخالها في أتون الصراعات الطائفية والمذهبية. وعلى الرغم من مرور أكثر من خمس سنوات على بدء الدمار والقتل والذبح والحرق، واتضاح الرؤية ، إن كان بشأن طبيعة بعض الأنظمة، أو بشأن طبيعة التنظيمات المتطرفة المتشددة، أو المعارضة المعتدلة، فإن نسبة كبيرة من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي لا يزالون يتعاملون مع المادة الإعلامية بنفس الطريقة التي كانوا يتعاملون بها مع انطلاق الأحداث والأزمات، لا يزال هؤلاء يصدقون كل صورة تصل إليهم، وكل خبر يظهر في صفحاتهم، ويعيدون بث المواد بلا تمحيص في المصداقية، وكأنهم عادوا إلى أول السطر ليطالبوا بالجهاد ونصرة (الثوار والمجاهدين)، ومسحوا بذلك ذاكرتهم من أفعالهم الموثقة، ومخططاتهم الرامية إلى تدمير العقل البشري قبل المدن والقرى، وأخذ الناس رهائن وسبايا. وكأنهم بذلك يعيدون شحن الزمن لإثارة الحرب الأهلية الدينية المذهبية، مستندين إلى عاطفة انفعالية فورية. دعونا نفكر بصوت مسموع عن طريق استخدام المنطق، ونتأمل الحقائق الرئيسية، متخذين من مدينة حلب التي شغلت العالم ولا تزال، بينما لم يشغل العالم ما يعانيه الناس والمدنيون في محافظة الرقة، مثلاً. يقول المنطق إن هناك مدينة اسمها حلب، مدينة سورية يسكنها سوريون من جميع الأطياف والأديان والأعراق، مدينة عريقة على مدى التاريخ، شاءت الأحداث واللاعبون الإقليميون والدوليون أن تكون مقسمة بين منطقة تابعة للنظام، ومنطقة تحت سيطرة المسلحين، وهؤلاء المسلحون ينتمون إلى أطياف مختلفة، ولكن غالبيتهم من المتطرفين الذين صنفتهم المنظمات الدولية والدول الكبرى والدول العربية أنهم إرهابيون، وجزء كبير من هؤلاء ليسوا سوريين، وبالتالي هم دخلاء على المنطقة. والمنطق يقول إن حلب يجب أن تكون موحدة تخضع للقوانين الرسمية، وليس لقوانين المسلحين الغرباء، وهذا منطق لا يمكن أن تتصدى له أي دولة ، عربية كانت أو أجنبية؛ لأنه يدخل في إطار السيادة، مهما كان شكل النظام. ولتحرير هذا الجزء من المدينة لا بد من نشوب معارك وحرب طاحنة. فلماذا حين بدأت الحرب تعالت الأصوات وامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بالمناشدات، وغذتها مواقف دول كبرى وصغرى بالتحذير من الهجوم على المدينة؟ وقد استغلت المجموعات المسلحة المتطرفة المصنّفة على أنها إرهابية تطيير الأخبار والصور المؤثرة، وباتت تحظى بالتعاطف من جديد. والسؤال المنطقي يقول: هل تريدون إبقاء المدينة تحت سيطرة التنظيمات الإرهابية؟ وهل تتوقعون أن تحرير مدينة وإعادتها إلى السيادة سيتمان على طبق من حرير دون وقوع ضحايا؟ بينما ثبت أمام العالم كله أن تلك التنظيمات تأخذ المدنيين رهائن، وتمنعهم من مغادرة المدينة، وهذا حدث في مدينة الموصل العراقية. فما العمل إذن؟ المنطق يقول أيضاً إن هناك معارضة معتدلة تطالب بالتغيير نحو حياة أفضل، ولجأت إلى السلاح وسيلة لتحقيق أهدافها، والمنطق يقول إن هنالك حقاً في المعارضة وحقاً في التغيير، وجميع دول العالم لديها أحزاب معارضة، لكنها لم تلجأ إلى السلاح وتدمير المدن واحتلال القرى، لتدخل في حرب استنزاف قد تستمر لعقود. إن ما يثير الدهشة في هذه الحرب أن دولاً بعينها تدعي محاربة الإرهاب، وأنها تشن غاراتها على مقاتلي التنظيمات المتطرفة، وفي الوقت ذاته تفتح حدودها لاستقبالهم، وهم يغادرون شرقي مدينة حلب! إن المطلوب من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي التحلي بالوعي والتدقيق في الصور قبل بثها، فبعض الصور يعود إلى أطفال غزة وفلسطين، الذين قتلتهم آلة الحرب الصهيونية. suwaiji@emirates.net.ae
مشاركة :