ما كان من المنتظر توقّع صمود فصائل المعارضة المسلّحة في حلب، بل إن هذه الفصائل، وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع خطاباتها وأشكال عملها، بقيت أكثر مما يجب، بغضّ النظر عن ادّعاءاتها المضرّة، التي تصدر عن عقلية قدرية أو رغبوية، سيما بخصوص ما سمته «ملحمة حلب»، أو وعدها بقرب «تحرير» المدينة من النظام، إذ لا يمكن لفصائل، محدودة العدد والعدة والتفكير، مواجهة ميلشيات «الحرس الثوري» الإيرانية والعراقية واللبنانية والأفغانية والباكستانية إضافة إلى قوات النظام على الأرض، مع هيمنة القوات الروسية على الجو، التي استخدمت ضد تلك الفصائل أساطيلها البحرية والجوية وقدراتها الصاروخية، وحتى قوات الوحدات الخاصة الروسية (وفق تقرير لـ «وول ستريت جورنال» الأميركية في 16 الشهر الجاري). وفي الواقع فقد قاتلت هذه الفصائل أكثر من أربعة أعوام في ظل الحصار والقصف الجوي، في ظروف صعبة ومعقدة، بل صمدت أكثر من 13 شهراً على دخول القوات الروسية، وفي شكل وحشي ومدمر، على خط الصراع السوري، والذي احتلت فيه معركة حلب موقع الصدارة. لعل هذه المحددات تبيّن هشاشة «الانتصار» المتحقّق على بضعة آلاف من المقاتلين، فأي نصر هذا الذي أحرزه طرف يعتبر نفسه بمثابة دولة عظمى (روسيا) على هؤلاء المقاتلين؟ وأي نصر هذا الذي تدعيه دولة تعتقد بأنها باتت تهيمن على المشرق العربي (إيران) في حين أنها لم تستطع إنجاز ذلك من دون مساعدة روسية؟ وأي نصر حققه النظام الذي لم ينتصر إلا على خراب مدينة حلب وتشريد معظم أهلها (كما حصل في مناطق سابقة) في حين لم يعد يملك من أمره ولا من أمر بلده وشعبه شيئاً، بعد أن أضحت الكلمة الأولى لروسيا، وبعدها لإيران؟ على الجانب الأخر فقد أثار سقوط هذه المدينة، العاصمة الثانية لسورية، والمعقل الأساسي لفصائلها المسلحة، في أوساط المعارضة السورية والمتعاطفين معها، نظرتين متناقضتين: الأولى، انطوت على غلبة مشاعر الإحباط والندب ولوم الذات والعالم، وكأن الثورة انتهت، أو كأن قدر الثورات الحتمي أن تنتصر، علماً أن التاريخ لا يشتغل على هذا النحو، إذ إن الثورات، وفق التجارب التاريخية، يمكن أن تنهزم أو أن تنحرف أو أن تدخل في مساومات على بعض أهدافها، هذا على رغم كلفتها الباهظة ولا سيما إذا غلب عليها طابع الصراع المسلح. أما الثانية فقد انطوت على غلبة مشاعر الإنكار والمكابرة، كأن ما جرى شيء عابر أو ثانوي، ويمكن المرور عليه، مثلما حدث سابقاً في مناطق أخرى طوال مسيرة الثورة السورية! وفي حين ترتكز الأولى على جلد الذات والانكفاء والاستسلام لليأس والقنوط، فإن الثانية ترتكز على التهرب من تحمل المسؤولية، ورفض المراجعة التي تنطوي على عمليات النقد والمساءلة والمحاسبة. المعنى أن وجهتي النظر السابقتين خاطئتان ومضرتان، حيث الأجدى النظر إلى التطورات الحاصلة بطريقة مسؤولة، موضوعية ونقدية، لا سيما لجهة الاعتراف بأن ما حصل في حلب، وما قبلها، هو دلالة على انهيار التصورات أو الأوهام التي تحكّمت بمسيرة الثورة السورية، بخطاباتها، وبناها، وطرق عملها، ونمط علاقاتها مع شعبها أو مع العالم، من دون أن يعني ذلك الاستنتاج بانهيار ثورة السوريين تماماً، أو النيل من مشروعيتها. أولى هذه الأوهام تتعلّق بسقوط وهم العسكرة، بالشكل الذي تمظهرت عليه في المشهد السوري، بواقع تشرذم الفصائل المسلحة وتعدد مرجعياتها، وتحكم الخلافات الضيقة فيها، وانشغال كل فصيل بتنمية نفوذه على حساب غيره، والحديث يجري عن عشرات الفصائل، وهو أمر لا يمكن النظر إليه بطريقة بريئة، إذ يأتي ذلك ضمن التلاعبات الخارجية بالثورة، لإضعافها، وللتحكم بها. كما يتمثل ذلك بمحاولة هذه الفصائل التغطّي بأيدلوجية معينة (دينية وطائفية) في حين أنها في الحقيقة تفتقر إلى أي عمق فكري أو سياسي، فضلاً عن أنها ليست منبثقة من أي مكون من التيارات الإسلامية المعروفة في سورية، وهذا الغطاء كان نتاجاً للتدخلات أو للاشتراطات الخارجية، لدعم هذا الفصيل أو ذاك، مع علمنا بعزوف هؤلاء الداعمين عن تقديم أي عون لـ «الجيش الحر»، الذي أزيح تماماً، وبإرادة مقصودة، عن المشهد. كما يشمل ذلك إخفاق الإستراتيجية التي بني عليها حصر الصراع السوري بالعمل المسلح، والتي تقوم أساساً على «تحرير» مناطق والسيطرة عليها، من دون إدراك أن هذه الإستراتيجية تحرّر النظام من عبء السيطرة على مناطق كثيفة السكان، وتجعله يقتصد بتوزيع قواته على المناطق الأكثر أهمية له، بدل نشرها هنا وهناك، ناهيك بأن هذا الأمر يجعل «المناطق المحرّرة» بمثابة حقل رماية للبراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية والقنابل الارتجاجية. وبديهي أن كل ذلك يؤدي إلى أخطر من ذلك وهو تشريد أهالي تلك المناطق، وتالياً إخراج الشعب من معادلات الصراع مع النظام، وهو ما حصل، أي أن هذه الإستراتيجية أضرّت بالثورة وأضرّت بمجتمع السوريين، من دون أن يكون بمقدور الفصائل العسكرية تأمين الحماية لتلك المناطق، ولا حتى فرض إدارتها عليها كنموذج لسلطة بديلة للنظام. ثاني هذه الأوهام يتعلق بالارتهان إلى الخارج، إذ إن الذهاب نحو تصعيد العمل العسكري، وحصر الثورة فيه، تم بطريقة متسرعة وغير مدروسة وغير تدرجية، وقام على فكرة خاطئة ومتسرعة تقول بإمكان التدخل الخارجي، سواء بتوجيه ضربات للنظام أو عبر تقديم الدعم للمعارضة كما بإقامة مناطق حظر جوي أو مناطق آمنة، ولكن هذا الرهان فشل سيما منذ صفقة تصفية الكيماوي مع روسيا (أواخر 2013). والمشكلة هنا أن المعارضة، وعوض استنتاج العبر الصحيحة والمناسبة، لم تبال تماماً بهذا التطور وواصلت الطريق نفسه، بدلاً من التحسّب من التصعيد العسكري وحصر الصراع بالعمل المسلح، وسط تشجيعات من الخارج، وبحكم غياب مركز قيادي أو مؤسسة قيادية في الثورة. ولعل هذا يسمح بالقول إن الدفع نحو العمل المسلح ربما هو أكثر مجال جرى التلاعب به في الثورة السورية، بدليل أن معظم الدول «الصديقة» تركت حلب لمصيرها، كما تركت غيرها من قبل، من دون أن تدرك الفصائل ما يجري، إذا كانت تريد أن تدركه حقاً، بحكم ارتهانها لهذه الدولة أو تلك. وكما بات معلوماً، فإن الولايات المتحدة لم تسمح بمد الفصائل العسكرية بالسلاح النوعي، لا سيما المضاد للطيران، في حين أنها سكتت عن تدخل إيران عسكرياً لمصلحة النظام، ومعها ميليشياتها العراقية واللبنانية والأفغانية، كما عن تدخل روسيا بأساطيلها البحرية والجوية ضد الثورة السورية. ولعل كل ذلك يطرح السؤال عن مدى صدقية التعامل الأميركي مع الثورة، إذ ثمة وجهات نظر تفيد بأن إستراتيجية الولايات المتحدة تقوم على انتهاج خطة تتأسس على ديمومة الصراع السوري، وجعل سورية ساحة صراع لاستنزاف روسيا وإيران وتركيا وغيرها من الدول العربية، وبما يؤدي إلى إضعاف المبنى الدولتي والمجتمعي في المشرق العربي، ما يخدم أمن إسرائيل لعقود. وكان المحلل الأميركي ريتشارد لوتواك (من المحسوبين على تيار المحافظين الجدد)، شرح هذه الفكرة باعتباره (في مقال نشره عام 2013 في صحيفة «نيويورك تايمز»)، أن الولايات المتحدة ستخسر في سورية «إذا كسب أي من الأطراف» وأن «الاستنزاف الطويل الأمد في هذه المرحلة من الصراع هو المسار الوحيد الذي لا يضر بالمصالح الأميركية»، وختم بنصيحة قال فيها: «سلّحوا المتمردين كلما ظهر أن قوات الأسد في صعود، وأوقفوا دعمهم كلما بدا أنهم سيكسبون المعركة»، وهي وجهة نظر تستند، أيضاً، إلى مقولة إسرائيلية تقول: «دع العرب يقتلون بعضهم». ثالث هذه الأوهام يتعلّق بانهيار المبنى الإيديولوجي للثورة، الذي تغطى بـ «الإسلام»، بخاصة مع ملاحظتنا التنافس والتنازع والاقتتال بين الفصائل العسكرية الإسلاموية، إلى درجة أننا أصبحنا إزاء واقع يقتل فيه إسلاميون إسلاميين، هذا ناهيك بالقبضة المتشددة لهذه الفصائل على المجتمعات المحلية التي وقعت تحت سيطرتها. والفكرة هنا أن هذا النمط من الفصائل، القائم على الإيديولوجيا والعنف والسلطة، لم يضر بالثورة السورية فقط وإنما هو أضر بمجتمع السوريين، وقوّض اجماعاتهم، وعمّق اختلافاتهم، وقلّل ثقتهم ببعضهم، وأثار مخاوفهم من المستقبل، وهو ما أفاد النظام، وقدم له خدمة جلية. وما ينبغي توضيحه هنا أن هذا الأمر لا علاقة له بالطابع الإيديولوجي (الإسلاموي) للفصائل المذكورة، أي أن ما ينطبق عليها ينطبق على غيرها. أي أن الأمر ذاته يشمل أية سلطة مهيمنة سواء كانت دينية أو علمانية، يمينية أو يسارية، وطنية أو قومية، لأننا هنا نتحدث عن نمط إيديولوجي مغلق، وعن علاقات مع المجتمع تتأسس على القسر والهيمنة والإكراه والعنف. ولا يفوتنا هنا ملاحظة مدى التخبط في خطابات هذه الفصائل، فهي عدا عن تبنيها خطابات طائفية ودينية، هي مجرد غطاء أو ادعاء لا أكثر، فقد غلّبت في صراعها مع النظام البعد العاطفي والرغبوي والمزاجي والروح القدرية، وهو ما أوصلنا إلى هنا، أي إلى الكارثة في حلب. والخلاصة فإن السوريين اليوم إزاء توهّمات يفترض القطع معها تماماً، وإزاء تجربة ينبغي استنتاج العبر الصحيحة منها بطريقة نقدية ومسؤولة، إذا ما أريد لمسيرة الشعب السوري أن تصوّب مسارها وتحقّق مرادها. * كاتب فلسطيني
مشاركة :