يتداول الفلسطينيون، في هذه الأثناء، موضوع الانتخابات العامة، التشريعية والرئاسية، ويحاولون الإجابة عن أسئلة معقدة، لعل أهمها: كيف يستطيع النظام الفلسطيني تجاوز العقبات التي صنعها بنفسه ولنفسه؟ وما هي المهام التي يمكن أن يضطلع بها الفائزون؟ وماذا سيفعل الخاسرون في ظل معطيات ووقائع الهيمنة بقوة الأمر الواقع على المساحات الجغرافية التي يؤدي فيها طرفا الخصومة الفلسطينية وظائف محدودة، تتلخص كلها في موضوعة السيطرة الإدارية على اثنين من التجمعات البشرية في أراض محتلة أو محاصرة، بينما هناك ثلاثة تجمعات للفلسطينيين، تقع خارج خارطة الانتخابات، إحداها اندمجت قسرا في خارطة الانتخابات الإسرائيلية، والثانية المقدسية، ستكون مشاركتها رهنا بالموافقة الإسرائيلية وشروطها، والثالثة التي في الشتات، لم يستطع النظام السياسي تأمين حقها في المشاركة، طالما أن نتائج أي انتخابات ستفرز موضوعيا قيادة فلسطينية للمرحلة المقبلة؟ من نافل القول، إن العقبات التي صنعها النظام الفلسطيني لنفسه، تمثل جذر المأزق. فقد انقسمت المساحة الجغرافية الضئيلة والمتناقصة، التي أتاحها اتفاق أوسلو لإعلان المبادئ، إلى سلطتين، وفشلت السلطتان في استعادة وحدة النظام الفلسطيني، وحتى بعد أن تأكد فشل منهجية كل منهما، ازدادت كلا السلطتين عنادا وتمسكا بفقدان السيطرة على أي شيء سوى نفسيهما، بل أظهر كل طرف الرضا والقناعة بالسيطرة على نفسه، وأصبح النظام السياسي وشروطه ووظائفه الوطنية، مشروخا وفاقدا للفاعلية. طرف يزهو بصلاحياته البروتوكولية وما تبقى من اتصالاته الدولية، وآخر يزهو بالقوة المسلحة الضامنة لاستمرار سيطرته. وفي المحصلة ورُغما عن أي نتائج يُفرزها الصندوق، لن تتزحزح كل سلطة عن مواضع سيطرتها الحاسمة. فمن يمسك بالصلاحيات البروتوكولية والاتصالات، سيظل ممسكا بها ويحسم أمر الهيمنة لصالحه، ومن يمسك بغزة سيظل يحسم أمر السيطرة فيها بقوته الأمنية المسلحة. ولا يرغب الطرفان في استعادة المؤسسات الدستورية والقانون والتخلي عن قوة الإكراه، استحواذا على الصلاحيات السياسية والأمنية، داخل البؤر المحاطة بقوة احتلال فاجرة، تبادر إلى التعدي والانتهاكات اليومية وإلى شطب المزيد من هوامش حركة السياسة وحركة المقاومة. في هذا الإطار، يتداول الفلسطينيون موضوع الانتخابات ومقارباتها الإجرائية ومرشحيها. والأنكى أن كل التوقعات تفيد بأن سجالا داخليا يجري داخل كل طرف، لأن العناصر المهيمنة في دائرة اتخاذ القرار لدى الطرفين، تحت سقف المتاح لكل منهما، حريصة على استمرار نفوذها، على الرغم مما تسببت فيه من الإخفاقات والمحن، وما جنته على نفسها وعلى شعبها من مرارات، حتى أصبح الشعب الفلسطيني، للمرة الأولى في تاريخه، ناقما على الطبقة السياسية التي يُفترض أنها تمثل مصالحه وتعمل على تحقيق أهدافه. وبموجب هذه الحقيقة، أصبح الفلسطينيون في خضم فرضية الانتخابات، بصدد مجموعة من السجالات ذات الصلة بالمشروعية: السجال بين طرفي الخصومة، ولدى كل منهما، موضوعيا، ما يفند مشروعية الطرف الآخر ويطعن في جدارته، والسجالات العديدة في داخل كل طرف، بقوة تدافع الأجيال وحقائق فشل التجارب والأدوار، وسجال المجموع الوطني الفلسطيني حول كيفية الخروج من شبكة المآزق الذاتية والموضوعية، مع خلو وفاض القوى السياسية من النصوص التي يمكن أن تمثل إستراتيجية عمل وطني واحدة، تواجه إستراتيجية إسرائيل ومراميها وجموحها. فلا يختلف فلسطينيان على أن مكونات الطبقة السياسية منفصلة عن الواقع، وأنها في حاجة إلى مساحة زمنية للحوار الوطني المعمق، وإلى وضع الترهات جانبا ومواجهة معطيات الواقع بشفافية وشجاعة وبروح المسؤولية، في سعي إلى الخروج بإستراتيجية عمل وطني واحدة، تجري بموجبها المنافسة على مواقع المسؤولية وليس المنافسة على من يأخذ ماذا من مباهج السلطة في واقع عام عقيم وكئيب يراوح في مربع الخيبة والفشل. وبكل أسف، يمكن القول دون تردد، إن الطرفين غير مؤهليْن حتى الآن لهكذا حوار. وعلى الرغم من ذلك تراهما يزعمان أنهما جاهزان للانتخابات التي لا يريدانها ولا يريدان الاعتراف بالواقع. فكل منهما لا يزال يتمسك بغروره وأوهامه، ويراهن على منجز واحد، هو نجاحه في تجريف المجتمع من السياسة، وفي منع تشكل أي طبقة سياسية، بل أجهز على مؤسسات المجتمع المدني، وأخضعها بعد أن أسس لبعض رموزها التي بدأت قوية ورائجة؛ ملفات فساد أو احتواها من خلال مساعدتها على تجاوز عثرات اتجار واستثمار، جرت في مناخات الإحباط والبحث عن خلاص فردي، وفي مناخات التشظي السياسي، وتنوع المصالح. في موازاة هذه الكارثة الناجمة عن منطق المقاولة الفردية، التي تناقض منطق العملية السياسية الاجتماعية الشاملة، لدى رئيس السلطة محمود عباس، وعن منطق الانقضاض الأمني والعسكري المحمّل بأوهام ومفردات الخطاب المنبري العاطفي لدى حماس؛ وصل الفلسطينيون إلى طريق مسدودة، وليست هناك أي إشارات تدل على أن المسؤول الرسمي الأول محمود عباس ينوي أو يمكن أن يقتنع بضرورة إنهاء حياته بعملية تكفير عن الذنوب، والذهاب إلى حوار وطني جاد ومسؤول، يؤدي إلى استعادة منظمة التحرير الفلسطينية دورها، كممثل شامل للشعب الفلسطيني ومصالحه. إن ما يجري الآن، هو أشبه بعملية انتحار سياسي. فالمحيطون بعباس يفعلون الشيء نفسه الذي فعله المحيطون بالرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، عندما رسموا لحياته السياسية نهاية مهينة لا تليق به، وهو رجل ذو تاريخ لا يدنو منه تاريخ محمود عباس. بالتالي فإن النتائج في المثال الفلسطيني ستكون أفدح، لأن المحيطين بعباس يطرحونه مرشحا للرئاسة بعد سن الخامسة والثمانين، وهدفهم أن يحكموا فعليا باسمه، وليس من بين هؤلاء من لديه حتى مآثر سابقة لمن أحاطوا بالرئيس الجزائري الذي أسقطه الشارع. الوضع الفلسطيني جد خطير، وليست هناك حتى الآن، ومضة أمل، فالطبقة الفلسطينية السياسية اختارت معاندة الحقائق، وأعلنت عن جاهزيتها لخوض انتخابات بلا أسس دستورية، كقفزة في الهواء لم تجد سواها للخروج من المأزق الداخلي، لا يسبقها حوار يحدد مواطئ المتنافسين فيها أو اتجاه حركتهم بعد انفضاض السامر.
مشاركة :