أعود لأكتب مرة أخرى عن سوريا، ولكن هذه المرة عنكِ يا حلب، يا مَن أوجعت قلوبنا وأحلْتِ نومنا إلى كوابيس، ويقظتنا إلى ألم مستمر.. أكتب لكِ لأطلب منك السماح.. السماح من تقصيرنا وعظمتك، ضعفنا وصمودك، خذلاننا وشجاعتك.. أكتب لكِ وأنا أذرف الدموع علَّ الدموع تغسل بعضاً من خطايانا أمامك.. فسامحينا يا حلب. فأنهار الدماء، والجثث الملقاة في الشوارع التي لم يأبه لها العالم وكأنها مجرد حجارة لا قيمة لها نُثرت هنا وهناك.. والخراب الذي أحالك أثراً بعد عين.. وأحالَك مدينة للأشباح بعد أن كنتِ مدينة للحياة والأمل.. والصمت القاتل المميت الذي أطبق قبضته عليك، فجعتنا، سحقتنا، دمرت تفكيرنا، وشلت الكلمات داخل نفوسنا، وذبحتنا بسكين بقايا الضمير الصدئ الذي يسكن صدورنا، وأمطرتنا حزناً بعد حزن وأغرقنا سواداً لا أخال أننا نستطيع الخروج منه إن لم نكفر عن خطيئتنا. ذهبتُ أنقّب عن بقايا شجاعة أحسبها مدفونة تحت رمال الاعتياد على الذل الذي بات جزءاً من نفوسنا، فإذا بي أجد خنجراً مسموماً يطلب الانتقام، يطلب الثأر.. ينتفض وهو قطعة من الحديد، ويصرخ بي.. عجبت، أيصرخ الخنجر وينتفض ويطلب الثأر والانتقام بينما نحن قانتون نذرف الدموع؟ ما بالنا صمَّت آذاننا، وبكمت ألسنتنا فوقفنا عاجزين أمام ما يجري في حلب؟! أسلّي نفسي أحياناً بأن ما نراه من فظائع بات قلمي عاجزاً عن وصفها، ربما يكون مجرد حلم.. كابوس استبد بي خلال نومي، ولكني أستيقظ لأجد الكابوس المرعب وأنهار الدماء هي الحقيقة الوحيدة والحقيقة المرة التي لا تقبل أي شك، ولا تقبل إلا أنها يشاهدها كل العالم الذي أغمض عينيه عما يجري في حلب، فأشعر بأننا طابور من الحمقى، الذين غُشيت أعينهم واستهزأ الآخرون بهم وخدعوهم بالمسميات البراقة التي ملأوا رؤوسهم بها طوال السنوات الماضية، حتى بتنا نصدق أن هناك عالماً متحضراً، وعالماً "ديمقراطياً".. وقفت يا حلب أمام الطغاة لتكشفي الزيف الذي صدقناه.. وتثبتي كذب كلامهم وادعاءاتهم. تمنيت يا حلب لو أنني لم أكُن في يوم ما روحاً وقلباً وجسداً في هذه الحياة الظالمة.. تمنيت لو أن روحي قُبضت منذ أمد بعيد.. تمنيت لو أنني مضيت في صغري إلى الدرب الذي لا يعود منه الذاهبون، حتى لا أسمع صرخة أحدهم وهو ينعى حلب صارخاً: "يا ناس س ق ط ت حلب".. والله إنني حتى الآن لم أستطِع نطق هذه الكلمة بلساني، فهي تحشرج روحي وتقتلني. وكأنني أسمعه يقول: سقطت بغداد أمام التتار، سقطت الأندلس، سقطت دولة الخلافة الإسلامية، سقطت القدس، احتل الأميركان بغداد، سقطت عدن بأيدي الحوثيين.. إلخ. وماذا فعلت وفعلنا يا تُرى؟ جلست وجلسنا نبكي، ننوح، ونعزي أنفسنا أن هذا فقط ما نملك فعله؛ بل وننتظر الأجر من الله على دموعنا وحزننا وعجزنا.. بقي علينا فقط أن نلطم الخدود ونشق الجيوب.. وكم نحن سلبيون؟! فهل تعيد الدموع المسلوب؟ هل تعيد الدموع الشهداء؟ هل تعمِّر الدموع الخراب؟ هل تطهرنا الدموع من إثم صمتنا وخذلاننا؟ لا أظن ذلك. وأنا متأكدة بعد مضي بعض الوقت أننا سننسى.. سننسى الدماء والأشلاء والخراب، سننسى مصيبتك حلب، وتعود الضحكة على وجوهنا وكأن شيئاً لم يكن، كما نسينا دماء غزة ونسينا شهداءها، فغدوا مجرد أرقام لبشر قضوا بقصف الصواريخ وتحت أنقاض البنايات.. ونتذكرهم نترحم عليهم ثم نمضي في سبيلنا، ونطمئن أنفسنا حين يلسعنا الضمير بسياطه قائلين: ما سُمي الإنسان إلا لأنه ينسى ** وما سُمي القلب إلا لأنه يتقلب فنعطي بذلك العذر لأنفسنا؛ لندع حتى الحزن على حلب وأخواتها جانباً ونعيش كما يحلو لنا. أكتب كلماتي لك يا حلب، وأنا أطلب منك السماح والمغفرة، وأرجو أن لا تعوِّلي علينا الكثير.. فما نحن بأحياء لنجيبك وننصرك. #حلب_تباد ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :