بدت الأزمة السورية حاضناً مثالياً للدراما التلفزيونية المصورة خلال السنوات الست المنصرمة عند طرفي الأزمة، على رغم تقصير دراميي الخارج السوري في عكس أمور مهمة وتحميلها بالمضامين التي تنقل حقيقة الحراك الذي انطلقوا من أجله. بعض هذه المحاولات المجهضة جرى تحميلها بالمضمون الدرامي لخطاب يستمد أهميته من هجاء الآخر بقسوة تبرر الاستعلاء على مكون اجتماعي من الأفراد والجماعات التي يتشكل منها مجتمع قائم بحد ذاته، إلى حد التشكيك بعوامل وجوده وإقصائه وإلغائه وحتى إعدامه. على العكس من ذلك تماماً نجح الإنتاج الحكومي السوري في عكس مواقفه، فظهر محارباً من أجل الأقليات ومدافعاً عنها في وجه التنظيمات المتطرفة التي تنوي اقتلاعها بعد تهديم الدولة السورية. ولن يكون صعباً ملاحظة نجاح النظام السوري في إعادة تنشيط الدورة الدرامية التلفزيونية في 2016، بعدما سجلت تراجعاً ملحوظاً في العام السابق. ربما أدرك حاجة المحطات الفضائية للبضاعة السورية ومراهنتها على استقطاب أكبر للجمهور والمعلن على حد سواء بغض النظر عن المحاور الدرامية التي تبحث عنها، وإن لم تكن الصورة واضحة كثيراً مع حشره سياسياً على كافة المحاور. لا يبدو الرهان مكلفاً للنظام الذي استطاع أن يعيد ترتيب أوراقه الدرامية لهذا العام حتى يُنتج ثلاثين عملاً درامياً لقي بعضها طريقه إلى الفضائيات العربية، في محاولة واضحة لإعادة اختراق هذه السوق التي حيدت مشاهديها عن نار حارقة تأخذ في طريقها كل شيء وظلت تعيد عنونة الرواية الرسمية عن الأحداث والأزمة. القول هنا لا يحتاج إلى توضيحات، فالدراما السورية الواقعية التي تجاوزت حقيقة ما يصور أمام الكاميرات وبإدارة ممثلين وممثلات، غيرت في طريقة المشاهدة والتلقي وربما في طريقة التلقين الذي حرصت عليه الدراما السورية التلفزيونية في السنوات الماضية، ممثلة بشركات خاصة وواحدة عامة مقربة من الدولة والنظام. هذا بدا واضحاً في جملة أعمال برزت هذا العام بقوة، وإن عرضت في معظمها على الشاشات الحكومية بالدرجة الأولى في وقت أغفل الجانب المعارض في شكل كامل الدور الحيوي الذي يمكن للدراما التلفزيونية – تحديداً – أن تلعبه، وباستثناء بعض المحاولات «الفاشلة» في العام السابق التي لم تتكرر مثل «وجوه وأماكن» للمخرج هيثم حقي، أو «منع في سورية» لبعض الهواة وعرضته قناتا «حلب اليوم» و «أورينت»، و «نساء ورئيس» الذي ظهر على قناة «يوتيوب» وفشل فشلاً ذريعاً، بالنظر إلى الفجاجة الكوميدية التي انتزعها لنفسه في محاكاة الشخصيات التي تظهر فيه. هذا التقصير الدرامي لم يكن ممكناً ملاحظته لولا النجاحات التي رافقت عمليات إعادة خلط الأوراق الدرامية السورية نفسها، ففي حين أفسح النظام لممثلين معارضين المشاركة في أعمال متبناة من قبله، فشل «الدراميون المعارضون» في تبني خطة طريق درامية تكشف عن «الخطاب الثوري» الذي ينتهجونه في مواقفهم السياسية، على رغم تواجد حاضنة سورية شعبية كبيرة من اللاجئين في تركيا مثلاً، والتي كان ممكناً استغلالها للقول أن ثمة صناعة درامية في الطريق آخذة في التشكل والتبلور، وحتى تسقط الحجج في صعوبة الوصول إلى الأراضي المحررة، لإعادة تمثيل ولو جزء معقول من دراما الحياة السورية، في حين نجحت شركات الإنتاج الخاصة في سورية – الداخل – من إعادة تمَثُّل هذه الديكورات الحيوية في الأعمال الدرامية التي أشرفت عليها تمويلاً وتنفيذاً. فَشَلُ المعارضين في تبني خط صناعة درامية مستقلة والركون إلى البديل الإعلامي والناشط على مواقع التواصل الاجتماعي لم يسد ثغرة التلقي الدرامي التي يبحث عنها المشاهد العربي والسوري ضمناً، حتى وإن تغيرت هذه الطرق والأمزجة والأزمنة التي تعبر عنها، إذ تظل حاجة مفقودة ولا يمكن الاستغناء عنها. وفي حين نجحت الدراما الموالية في تصوير اختراقات التنظيمات «الجهادية» المتشددة صفوف السوريين في العمق بوصفها تهديداً مباشراً لهم، وظهرت بقوة في بعض مسلسلات هذا الموسم، فشلت المعارضة في إطلاق ولو مسلسل واحد في أماكن تجمعات اللاجئين. بالطبع لا يمكن الحديث عن درامات الإنتاج العربية المشتركة مثل «العراب: الضرب تحت الحزام» أو «جريمة شغف» أو «نص يوم» على رغم أن الأول يضرب على تيمة العائلات المافياوية الحاكمة في سورية، من أنها تمتثل لخطة درامية تشرف عليها المعارضة. مما تقدم يبدو واضحاً أن طرفي الأزمة قدما كامل المسوغات لاكتمال قوس هذا الانفجار الدموي العنيف بالشكل الذي ظهر عليه في الواقع وبتنا شهوداً عليه. الطرف الأول نجح إلى حد ما في عكس خطابه الدرامي، مترافقاً مع هذا الانفجار، ونجح ربما في إعادة تسويقه أو تحييده من المقاطعة السياسية الملازمة لأصحابه منذ اندلاع الأزمة السورية، فيما فشل الطرف الثاني حتى في إطلاق أي مشروع درامي مقنع لجمهوره ومؤيديه. ربما لم تظهر بوضوح تلك الخطابات الأحادية الجانب الموجهة نحو جماعة بعينها إلا بوصفها اقتفاء أثر وممارسة خطاب تخييلي عنوانه الرئيس المفترض «هجاء الكراهية» التي دفعت بجميع السوريين إلى هذا المأزق ووسمته أخيراً بابتذال نقدي متكيف معه طاول الساحة الدرامية بكامل أطيافها بعدما تغيرت طريقة التلقي والتلقين، وكأن الخطاب لم يمكنه أن يعبر عن نفسه إلا بازدواجية صارخة يتقاسمها الجميع مداورة عندما تظهر في مسلسل وتكاد تطغى على كل شيء. الانقسام في الخطاب الدرامي لم يتعايش مع خطاب الكراهية، لكنه قبله وسار عليه، يغرف من أحداث دامية عاشها السوريون في العقود الأخيرة، وكانت تلامس عند الطرفين أشباح الماضي والحاضر مع نظرة عين خاطفة على مستقبل هش وغامض لا يمكنه الصمود أمام محاولات قراءة هذا الخطاب قراءة متبصرة لا تتسرع بشيطنة الآخر بغية التخلص منه كما تفترض عملية تطوير الصراع بين الشخصيات نفسها. ما حدث يختلف تماماً عن هذا التعريف. ما شاهدناه في دراما 2016 يقول أشياء كثيرة متداولة عن هذا الخطاب، أما ما ستقوله الأعوام المقبلة عن المأساة السورية ربما لن يمكن التعامل معه وفق هذا الخطاب الذي سيظهر معتدلاً مقارنة مع أهوال درامية قد تغطي على كل شيء، وتصبح مفردة هجاء الكراهية عملة غير متداولة في حينه.
مشاركة :