النسخة: الورقية - سعودي راجت خلال الأعوام الماضية، وبشكل مبالغ فيه، يوحي بنزعة تجارية تسويقية، قضايا الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، حتى أصبحنا نرى مؤتمرات وكتب مواقع إنترنتية «يبيع بعضها إعلانات تجارية!»، تروّج لمسألة إثبات أن «العلم» أثبت «حقيقة» موجودة في القرآن الكريم قبل أكثر من 1400 عام. أول ما ستتفاجأ به في مسألة التنظير للإعجاز العلمي في القرآن هو عدم وجود رؤية متماسكة تحكم مسألة العلم والإعجاز لدى منظريه. ستجد كتابات عامة عن العلم وضوابط التعامل مع القرآن الكريم من دون وجود نظرية متماسكة، ما جعل المشتغلين في هذا المجال يمارسون فوضى لا حدود لها، تصل غالباً إلى ليّ عنق نظرية علمية وابتسارها ثم التطرف في تفسير آية قرآنية لأجل إثبات علاقة لا توجد إلا في خيال من صاغها. يكتب الدكتور زغلول النجار، وهو أحد الأسماء اللامعة في مجال الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، ضوابط عدة للتعامل مع قضية الإعجاز العلمي، جلّها كتابات عامة يمكن قراءتها في أي منهج لتفسير القرآن الكريم، ما يعني خلو هذه الضوابط من نظرية في الإعجاز، فما هي إلا آداباً عامة حول تحري الدقة في فهم معاني القرآن وتتبع أسباب النزول ومعرفة الناسخ والمنسوخ والبحث عن نظريات علمية «قطعية»... إلى آخره. من خلال كتابات الدكتور النجار يمكن استشفاف نظرته إلى العلم، فهو ينظر إلى العلم وفق منهجية استقرائية تجريبية، ويرى أن هناك حقائق علمية قطعية، لذا يقول: «والمتحدي لا بد وأن يكون واقفاً على أرضية صلبة، وعلى ذلك فلا يجوز توظيف شيء في هذا المجال غير الحقائق القطعية الثابتة حتى يبلغ التحدي مداه في مجال إثبات الإعجاز العلمي للقرآن الكريم»، وهنا نجد النجار ينطلق من مسألتين: أن المسألة تحدي للعلوم بالقرآن وكأنهما في مجال منافسة، وأن العلم مصدر لحقائق قطيعة ثابتة. هنا نجد الإشكال الأساس هو أن العلوم ليست بهذا القدر من الثبات الذي تحوي به كتاباته أو دعاية المؤمنين بالعلم إيمان مطلق كمسير للحياة. يرى الدكتور النجار أن الحقيقة العلمية مصدرها حواس الإنسان «النزعة التجريبية»، وأن هذه المعرفة ربما تنتج «حقائق علمية لا رجعة فيها» فيرى أن هذا النوع من الحقائق هو المؤهل لأن يتم التعاطي معه في مجال الإعجاز العلمي للقرآن. الأمر الآخر المثير، أن النجار يتحدث في سياق آخر عن نقطتين: الانتصار بالعلم للقرآن، والانتصار للعلم بالقرآن. فهو يرى أنه في حال تعدد النظريات العلمية حول أمر ما، فهو يقوم بالانتصار للعلم بالقرآن، أي استخدام تأويله أو تفسيره للقرآن كإثبات أو مرجح لنظرية علمية متنازع حولها. الأمر الخطير في هذه النقطة أنها تمارس عن وعي انتقائية في النظريات العلمية وتأويل معين لآيات قرآنية لأجل ربطها. الإشكال الأساس في هذه النظرة للعلم والمعرفة العلمية أنها مختزلة في مدرسة واحدة تجريبية - استقرائية دارت حولها منذ عقود طويلة نقاشات أظهرت فلسفات حديثة للعلم ورؤى علمية جديدة لا ترى في العلوم ما تراه هذه المدرسة التجريبية - الاستقرائية، سواء بصيغها القديمة مع أوغست كونت أو فرانسيس بيكون أم صياغاتها الأحدث. فالنقاش عن عدم صلاحية حواس الإنسان وإدراكاته لاستسقاء معرفة علمية قطعية وثابتة أوسع وأقدم من أن يعاد الحديث حوله في هذه المقالة. والمدرسة الاستقرائية تعرضت لضربات موجعة من مدارس مختلفة منها على سبيل المثال المدرسة التكذيبية أو الدحضية. ويعتبر كارل بوبر أبرز روادها، إذ انتقد عملية الاستقراء ذاتها ليعلن - وأقولها بالكثير من التبسيط - أن النظرية العلمية علمية لأنها قابلة للدحض، أو يمكن تكذيبها، على عكس من يرى أن النظرية العلمية علمية لأنها قطعية من طريق التجربة ثم الاستقراء، ثم فتحت المجال لنظريات مختلفة في العلوم كما في «بنية الثورات العلمية» لتوماس كون أو نظرية تعدد الفرضيات العلمية أو الفوضوية العلمية كما نظر لها بول فيرابند. ما يقوم به العاملون في مجال الإعجاز العلمي للقرآن هو تعبير عن ضعف في العمق لا عن قوة، وتعبير عن الخضوع والوقوع تحت هيمنة نوع محدد من فلسفة العلوم تنتهج المنهجية التجريبية - الاستقرائية، ومحاولة إخضاع الدين لهذا السياق العلمي، فالناشطون في مجال الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وعن حسن نية - الرغبة في بيان إعجاز القرآن الكريم - قاموا بالخضوع لرؤية منهجية محددة «تجريبية - استقرائية» في العلم ومحاولة موائمة هذه النظرة مع تفسيرات وتأويلات للقرآن الكريم لا تحتملها النصوص ولا العلوم. لأن العناوين العريضة التسويقية لهذا القرن أنه عصر مادي علمي أراد بعضهم أن يفتعل «ويستجلب من الماضي الكنسي وذكريات محاكم التفتيش» مقابلات بين مجالات مثل العلم والدين، فحاول إما أن يفتعل التضاد بينهم أو على الجهة المقابلة إثبات هيمنة أحد هذه المجالات على الأخر، أو الاستدلال بأحدهم على الآخر، فهو وقع في فخ هذه المقابلات منذ البداية وتبناها في لا وعيه وبدأ في المنافحة معها أو ضدها. * كاتب سعودي. BALRashed@
مشاركة :