إثر الانفجار الروائي مطلع التسعينيات من القرن الماضي، ظهرت حركة نقدية مصاحبة للمنجز وراعية له، كما كان للإعلام الثقافي دوره في تعزيز الظاهرة والترويج للأصوات الروائية، الأمر الذي شجع على بروز قاعدة قرائية عريضة معنية بكل ما يحف بالانتاج الروائي، حيث مثلت الرواية آنذاك خطاب الحداثة الاجتماعية، وهذا ما جعل المنجز الروائي بمجمله محل اهتمام الناس وليس القراء وحسب، كما تورط كُتّاب المقالات في التعليق على ذلك الحدث الثقافي الهام، في ظل تهميش واضح لبقية الأجناس الادبية، إلا أن هذا الاطراد الدائم للرواية، والانفعال بتداعياتها الأدبية والاجتماعية أخذ بالتراجع في السنوات الأخيرة، على الرغم من الزيادة المطردة في إنتاج الرواية. لم يعد إصدار رواية لأي روائي سواء من الأسماء المعروفة، أو لروائي يبحث له عن موطئ قلم في المشهد، يشكل حدثاً ثقافياً، فالرواية تصدر تلو الرواية فلا تثير شهية القراء، ولا تستفز النقاد، ولا تحرك في المحررين الثقافيين الرغبة في مجادلة الروائيين حول منتجاتهم، وكأن الفعل الروائي قد دخل في مأزق القطيعة، وكأن الروائي يتحدث إلى نفسه ولا يخاطب قراءه، حيث صار المنجز الروائي ذاته بمثابة الأداء الثقافي البارد، الذي لا أثر له إلا ضمن دوائر صغيرة ومحدودة من أصدقاء الروائي ومريديه، فهم الذين يحاولون حمل روايته في مواقع التواصل الاجتماعي والترويج له، ولكن من دون أي مردود قرائي أو نقدي أو إعلامي يُذكر. في تلك الحقبة كان يُنظر إلى الرواية في السعودية كأنموذج للرواية الخليجية الجديدة، كما كان الروائيون في الخليج العربي ينظرون إلى روائيينا كنجوم ينبغي التعلّم منهم والاقتداء بهم، ولكنهم خسروا تلك المكانة مقابل صعود الرواية في الخليج، وبروز أسماء روائية على درجة من الكفاءة والجدية في الكتابة السردية، كما كان المثقفون العرب يتحدثون عن طفرة روائية مبشرة في السعودية، إلا أن تلك السمعة سرعان ما تآكلت بحيث لم يعد ذلك المنجز يحرض أحداً على مقاربته، سواء كقراء أو كنقاد، وبالتالي صارت الرواية في السعودية عنواناً للعطالة الأدبية، والكتابة لمجرد الكتابة، والتشاوف الاجتماعي، فهي خارج أفق القراءة الحقيقية، مهما دُمغت بعض الروايات بأرقام الطبعات المراوغة. ويبدو أن الرافعة الإعلامية كفّت عن التهليل لمعظم المنجز الذي يتحرك على هامش الفعل الابداعي، كما خاب أمل النقاد في أغلب الأسماء التي راهن عليها لتحويل كل ذلك الكم الروائي إلى حالة نوعية، ولم يعد القارئ متحمساً لتكرار الخديعة وتجريب قراءة المُجرّب، وإن كان كل ذلك لا يعني توقف الانتاج الروائي، أو حدوث انتباهة عند الروائيين للتفكير في تجويد المنتج الروائي، واستعادة الثقة مع القارئ، أي إعادة تشكيل ميثاق القراءة من خلال جودة الروايات وليس من خلال حملات العلاقات العامة، واستجداء القراء بحفلات التوقيع ورشاوى المديح المتبادل في مواقع التواصل الاجتماعي، والتقاط الصور التذكارية في المناسبات الثقافية، فكل تلك المتوالية لا علاقة لها بكفاءة الرواية ورصانتها الأدبية. هناك أسباب كثيرة لهذا التهميش الصريح للرواية في السعودية، أهمها وأخطرها ضعف المنجز، إذ يمكن للقارئ أن يتغاضى عن جُملة من العثرات والارتباكات الفنية واللافنية، إلا أنه من الصعب عليه التنازل عن المتعة والتشويق والمعاني التي يفترض أن تنحمل عليها الرواية، ومهما كابر بعض الروائيين، خصوصاً أولئك الذين يرددون مقولات توحي بوجود مؤامرة على الرواية المحلية، تبقى الرداءة عنواناً لجزء كبير جداً من المنجز الروائي، ويبقى استسهال الكتابة عنواناً رديفاً للمنجز أيضاً، كما يبدو في المقابل استمراء معظم الروائيين على سطحية القارئ وقبوله بأي كتابة بين غلافين رهاناً أثبت خسرانه، فالقارئ اليوم هو الذي خلع عن أولئك كل نياشينهم ولم يعد يأبه إلا بما يغذيه معرفياً وجمالياً. هذا هو ما يفسر انصراف القارئ عن معظم الروايات المحلية وتأسيس ميثاق قراءة مع الروايات المترجمة، لأنه لا يجد في الرواية المحلية ما يخبره عن ذاته وعن مجتمعه، ولا يلتقط فيها أي خبرات حياتية ذات قيمة، وهذا هو المقياس الذي يدحض كل الآراء التي تقول إن الرواية في السعودية تحظى بدراسات جامعية، وهذا صحيح في إطار القراءة المدرسية ضيقة الأفق، وهي أيضاً موجودة كمادة إخبارية في مواقع التواصل الاجتماعي، وأشبه ما تكون بالإعلان التجاري عن منتج يُراد الترويج له، إلا أن الحقيقة هي عدم وجود رواية تتناهبها أيدي القراء، وتلهج بموضوعها ألسنتهم، وتمتلك من القدرة الفنية ما يؤهلها للعبور خارج الحدود، وصد كل الملاحظات السلبية الآخذة في التراكم وإحداث القطيعة مع القارئ.
مشاركة :