لا نبالغ أدنى مبالغة إذا قلنا إن الإنسانية تنتقل الآن، عبر عملية معقدة ومركبة، صوب صياغة مجتمع عالمي جديد، تحت تأثير الثورة الكونية. وهذه الثورة الكونية تأتي، في التعاقب التاريخي للثورات المتعددة التي شهدتها الإنسانية، عقب الثورة الصناعية. وكانت البدايات الأولى تتمثل في بزوغ ما أطلق عليه «الثورة العلمية والتكنولوجية، والتي جعلت العلم، للمرة الأولى في تاريخ البشرية، قوة أساسية من قوى الإنتاج، تضاف إلى الأرض، ورأس المال والعمل. وبالتدريج بدأت ملامح المجتمعات الصناعية المتقدمة تتغير، ليس في بنيتها التحتية فقط، ولكن أيضاً في أسلوب الحياة، وأنماط التفكير، ونوعية القيم السائدة، وأساليب الممارسة السياسية. ومنذ الستينات ذاع مصطلح جديد، أطلقه بعض علماء الاجتماع الغربيين، من أبرزهم دانيل بل لوصف المجتمع الجديد، وهو «المجتمع ما بعد الصناعي» غير أنه مع مرور الزمن تبين قصور هذا المصطلح عن التعبير عن جوهر التغير الكيفي الذي حدث، ومن هنا صك العلماء الاجتماعيون مصطلحاً آخر رأوا أنه أوفى بالغرض، وأكثر دقة في التعبير، وهو مصطلح «مجتمع المعلومات» الذي أشرنا إلى ملامحه الأساسية من قبل. منع الاختلاط، وبطريقة عامة فالثقافة هنا تعرف باعتبارها البعد الرمزي – التعبيري للبناء الاجتماعي. وهي تقوم بتوصيل المعلومات للأفراد عن الالتزامات الملزمة أخلاقياً، وهي بدورها تتأثر ببنية هذه الالتزامات. إن المدخل التعبيري لا يركز على المعلومات التي يتم نقلها للأفراد مباشرة، بقدر تركيزه على الرسائل messages التي قد تكون مضمرة في الطرق التي تنظم بها الحياة الاجتماعية، وفي اختيار كلمات الخطاب (يمكن الرجوع هنا مرة أخرى إلى حالة الخطاب الإسلامي المعاصر في مجال حركات الإسلامي الاحتجاجي السائدة في كثير من البلاد العربية الآن). في ضوء سمات بمجتمع المعلومات الكوني الذي يعبر في شكل عام عن اتجاه تطور المجتمع الإنساني في الوقت الراهن، وللتحليل الثقافي باعتباره المنهجية الملائمة لدراسة وتحليل وتفسير التغيرات الكبرى التي حدثت في العالم، يمكننا القول إن ما أطلقنا عليه منذ البداية الثورة الكونية، للتعبير عن مجمل حركة الانقلاب في الأوضاع العالمية، ليس ثورة وحيدة البعد، ولكنه ثورة مثلثة الجوانب في الواقع. فهي أولاً ثورة سياسية شملت النظم السياسية المعاصرة والعلاقات الدولية على السواء، ويمكن تلخيصها في عبارة واحدة، هي أولاً: أنها تحول من الشمولية والتسلطية إلى الليبرالية، ومن صراع الفناء إلى إرادة البقاء، وهي ثانياً: ثورة في القيم، وتحول من القيم المادية إلى القيم المعنوية، وهي ثالثاً وأخيراً: ثورة معرفية تنطوي على الانتقال من الحداثة إلى عالم ما بعد الحداثة. وليس هناك من شك في أنه يمكن تلخيص الثورة السياسية التي تجتاح العالم في مجال النظم السياسية في عبارة واحدة مبناها أنها انتقال حاسم من الشمولية والسلطوية إلى الديموقراطية. والديموقراطية الحديثة التي تبلورت في القرن الثامن عشر، وطبقت جزئياً وفي عدد صغير من الأقطار، ظهر وكأنه قد تم اغتيالها في القرن العشرين. فقد ظهرت النازية والفاشية، وهي مذاهب سياسية وممارسة في الوقت نفسه قضت على القيم والممارسات الديموقراطية، كما أن الشيوعية التي قامت على أسسها نظم شمولية أدت أيضاً إلى الإضعاف الشديد للتيار الديموقراطي في العالم. غير أنه، فجأة، ونحو منتصف الثمانينات، حدث تحول ملحوظ لمصلحة الديموقراطية، في مجال الأفكار وفي مجال الوقائع على السواء، في سياق الحساسيات الشعبية، وكذلك في نظر المفكرين والقادة السياسيين. ومن هنا تثار تساؤلات متعددة: كيف ولماذا حدث التغير؟ وهل مقدر له الدوام، وهل سيتاح له أن يعمق تيار الديموقراطية في العالم؟ وهل هو يستند إلى مفاهيم واضحة، وهل ستطبق بجدية ونزاهة، أم أن الديموقراطية ترتكز على أفكار غامضة، غير متماسكة وزائفة، ليس من شأنها أن تكون سوى خدعة جديدة من شأنها أن توقع الإنسانية في حبائل عبودية من نوع جديد؟ هذا التساؤلات المتعددة يثيرها المفكرون الغربيون، وهم يرصدون اتساع نطاق الديموقراطية في العالم، ليس فقط في بلاد أوروبا الشرقية، والتي كانت ترزح تحت وطأة النظم الشمولية، وتحررت منها تماماً، ولكن أيضاً في بلاد العالم الثالث، والتي شرعت في الانتقال من السلطوية إلى الديموقراطية بخطوات متدرجة. ومن بين القضايا المهمة التي تثار في هذا الصدد: هل يمكن تصدير الديموقراطية؟ إن بعض الباحثين الغربيين المحافظين ممن ما زالوا يعتقدون، تحت تأثير أفكار المركزية الأوروبية، أن الديموقراطية الغربية نظرية متكاملة، ويمكن تصديرها إلى مختلف الشعوب، يقعون في خطأ جسيم، ذلك أنه ليست هناك نظرية وحيدة للديموقراطية تتسم بالتناسق الداخلي، ويمكن بالتالي نقلها وتطبيقها كما هي في أي سياق اجتماعي وفي أي مرحلة تاريخية. ذلك أن الديموقراطية، كما نشأت تاريخياً في المجتمعات الغربية، تأثرت في نشأتها وممارستها تأثراً شديداً بالتاريخ الاجتماعي الفريد لكل قطر ظهرت فيه. فالديموقراطية الإنكليزية، على سبيل المثل، تختلف اختلافات جوهرية عن الديموقراطية الفرنسية، وهذه تختلف اختلافات جسيمة عن الديموقراطية الأميركية. ولذلك إذا اتفقنا على أن هناك مثالاً ديموقراطياً ينهض على مجموعة من القيم، أهمها سيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، وحرية الفكر وحرية التعبير وحرية التفكير، وحرية تكوين الأحزاب السياسية في إطار التعددية، والانتخابات الدورية كأساس للمشاركة الجماهيرية في اختيار ممثلي الشعب، وتداول السلطة، فإن هذا المثل بما يتضمنه من قيم، سيختلف تطبيقه من قطر إلى آخر، وضعاً في الاعتبار التاريخ الاجتماعي، والثقافة السياسية، ونوعية الطبقات الاجتماعية، واتجاهات النخبة السياسية. ومن ثم نحتاج، في العالم الثالث في شكل عام، وفي الوطن العربي في وجه خاص، ونحن ما زلنا نمر الآن في مرحلة الانتقال من السلطوية إلى التعددية، إلى أن نفكر في النموذج الديموقراطي الذي علينا أن نتبناه، والذي يتفق مع الأوضاع الثقافية والاقتصادية والسياسية السائدة في الوطن العربي. وليس معنى ذلك الخضوع للواقع العربي بكل ما يتضمنه من تخلف، أو الاستنامة إلى حالة الركود السائدة، التي هي من خلق النظم السلطوية، التي جمدت المجتمع المدني العربي بمؤسساته المختلفة، ولا إلى حالة تفكك المجتمعات العربية بعد ثورات «الربيع العربي» ولكن ما نركز عليه هو ضرورة التفكير الإبداعي لصياغة نموذج ديموقراطي يستجيب إلى أقصى حد ممكن، إلى متطلبات المشاركة الجماهيرية الواسعة في اتخاذ القرار على المستويات كافة. غير أن المشكلة الحقيقية لا تكمن في الوقت الراهن في الصراع بين الأنظمة السياسية وتيارات المعارضة، مع أهمية هذا الصراع، ولكنها تتمثل في الصراع العنيف داخل جنبات المجتمع المدني ذاته، بين رؤيتين متناقضتين: رؤية إسلامية احتجاجية متطرفة، تريد إلغاء الدولة العربية العلمانية، وتهدف إلى محو التشريعات الوضعية، وتسعى إلى إقامة دولة دينية لا تؤمن بالتعددية، وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. أما الرؤية المضادة فهي الرؤية العلمانية بكل تفريعاتها، والتي تؤمن بفصل الدين عن الدولة وتعتقد أن التشريعات الوضعية ينبغي أن تكون هي أساس البنيان الدستوري والقانوني، مع الحرص على ألا تتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، كل ذلك في إطار التعددية السياسية، والتي لا ينبغي أن تُفرض عليها قيود. في تصورنا أنه في مرحلة الانتقال من السلطوية إلى التعددية، لا بد من إجراء حوار وطني واسع ومسؤول، بين الفصائل والتيارات السياسية كافة، للوصول إلى ميثاق يحدد قواعد العملية الديموقراطية، وينص على تراضي كل الأطراف بالاحتكام، ليس فقط لإجراءات الديموقراطية. غير أن هذا الميثاق المقترح منعت الوصول إليه الوسائل الإرهابية التي لجأت إليها تيارات الإسلام السياسي، خصوصاً في مصر للقفز على ثورات الربيع العربي لاحتكار السلطة إلى الأبد. وهكذا يمكن القول إن التنفيذ الأول من أبعاد ما أطلقنا عليه الثورة الكونية وهو الانتقال من السلطوية إلى الديموقراطية يرافقه بعد آخر هو الثورة القيمية وهي تعني الانتقال من القمم المادية إلى أهم ما بعد المادية وأهمها على الإطلاق الاعتداد بالكرامة الإنسانية والتي كانت أحد أسباب اندلاع ثورات الربيع العربي. * كاتب مصري
مشاركة :