إذا كنا بدأنا الحديث من قبل عن مكونات ما أطلقنا عليه «الثورة الكونية» ببعدها الأول، ونعني «الثورة السياسية»، فإن من الضروري أن نشير إلى البعد الثاني لها وهو «الثورة القيمية»، والبعد الثالث والأخير وهو الثورة المعرفية التي تعبر عن الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، وهو موضوع سبق أن عالجناه من قبل. في ما يتعلق بالثورة القيمية هناك اتفاق بين الباحثين على أنه حدثت في بنية المجتمعات الصناعية المتقدمة «ثورة هادئة» في القيم لو استخدمنا تعبير الباحث الأميركي البارز إنغلهارت. وهذه الثورة لها شقان: الأول يتعلق بالانتقال من القيم المادية إلى القيم ما بعد المادية. والثاني يتعلق بالتحول الجوهري في العلاقة بين النخب السياسية والجماهير، من صياغة النخب لاتجاهات الجماهير وتعبئتها سياسياً لتحقيق الأهداف السياسية التي ترسم لها، إلى تحدي الجماهير للنخب السياسية، من خلال المطالبة بالمزيد من المشاركة السياسية، والتدخل في عملية صنع القرار. لقد أدت هذه الثورة التي يطلق عليها إنغلهارت في كتابه «التحول الثقافي»، إلى تغيير جوهري ليس فقط في «أجندة» الموضوعات السياسية التي يدور حولها الجدل السياسي بين الحكومة والمعارضة وفي فترة الانتخابات الدورية، ولكن في بلورة اتجاهات جماهيرية واسعة المدى أثرت في أسلوب الحياة في المجتمعات الغربية المتقدمة. ومن هنا ظهرت قائمة بموضوعات جديدة من أهمها نوعية الحياة، وحماية البيئة، وظهور تيارات ثقافية تدعو للإحياء الديني. ويقرر بعض الباحثين أن هذا التغير في الاتجاهات والقيم في المجتمعات الغربية، يرد أساساً إلى آثار الثورة العلمية والتكنولوجية، التي مكنت الدول الصناعية المتقدمة من إشباع الحاجات الأساسية للجماهير، ما سمح لها أن تولي بصرها تجاه الجوانب المعنوية في الحياة. أصبح البحث عن المعنى هاجساً أساسياً لجماهير عريضة في هذه المجتمعات، وما دمنا انتقلنا من الإشباع المادي إلى مجال الإشباع الروحي، فلا بد أن يؤدي ذلك إلى حركة إحياء دينية، برزت معالمها في كثير من هذه المجتمعات المتقدمة. وهذه الحركة يفسرها بعض علماء الاجتماع مثل الأميركي دانييل بل بأنها ترد إلى أن الحداثة وصلت إلى منتهاها، بمعنى أنها وصلت إلى نهاية الشوط التاريخي، ولم تتحقق السعادة للبشر، على رغم شيوع السلع وتوافرها في مجتمعات الاستهلاك، وتحت تأثير ثقافة تحض الفرد أساساً على الاستهلاك الدائم، حتى أصبح ذلك غاية في حد ذاته. وقد أدى ذلك إلى شيوع «الاغتراب» في المجتمعات، ما أدى في النهاية إلى «عودة المقدس» إلى الحياة مرة أخرى، إذا استعرنا عنوان مقالة شهيرة لدانييل بل نشرها في «المجلة البريطانية لعلم الاجتماع». وإذا كانت المجتمعات الصناعية المتقدمة قد انتقلت من مرحلة القيم المادية، بعد أن أشبعت، إلى مرحلة القيم ما بعد المادية، إلا أنه في مجتمعات العالم الاشتراكي والعالم الثالث، فإنها تمر أيضاً بالمرحلة نفسها، وإنما لأسباب مختلفة تماماً. فقد تبين في هذه المجتمعات أن مقايضة الديموقراطية بإشباع الحاجات الأساسية المادية أدت في التحليل الأخير إلى الفشل في إشباع هذه الحاجات، في ظل القهر المعمم، والحرمان من الديموقراطية. في المجتمعات الاشتراكية، وحالة الاتحاد السوفياتي كانت تعد نموذجية، أصبح الحصول على السلع الأساسية يمثل مطلباً بالغ الصعوبة للجماهير العريضة، وتسود أوضاع مشابهة في مجتمعات العالم الثالث، نتيجة تذبذب السياسات الاقتصادية وجمود التخطيط المركزي، ومحاولة قهر الطبيعة الإنسانية، والقضاء على الحافز الفردي، والاعتماد على الدولة في كل شيء لسد الحاجات الأساسية، ما أدى إلى نقص الإنتاجية، وتعاظم الديون، والتضخم، والانخفاض المستمر للمعيشة، والانهيار في نوعية الحياة. وهكذا يمكن القول إن التحول الثقافي الذي لحق بالمجتمعات الصناعية المتقدمة قد لحق أيضاً، وإن كان لأسباب أخرى، بالمجتمعات الاشتراكية السابقة ومجتمعات العالم الثالث، بحيث يمكن القول، من دون مبالغة، أن هناك بوادر تخلق «وعياً كونياً» أصبحت مكوناته لا تفصل بين القيم المادية والقيم المعنوية، ولا تعزل المادة عن الروح، ولا ترى تناقضاً بين العلمانية والإحياء الديني. وفي ضوء هذه الثورة الكونية يدعو فريق من المفكرين إلى القيام بثورة عالمية World revolution شاملة. وهذه الثورة تفهم على أساس أنها استجابة لأزمتنا الكونية global الراهنة ولمجموع المشكلات الحادة التي تبسط رواقها على مختلف بلاد العالم والتي تواجه الإنسان في كل مكان وتواجه أيضاً البيئة الطبيعية. وقد صنف المفكر المعروف ريتشارد فولك Richard Falk مع فريق من زملائه في مشروع «نماذج النظام العالمي» المشكلات الاجتماعية المختلفة التي تواجه العالم إلى فئات أربع، وهي الحرب، وعدم توافر العدالة الاجتماعية، والفقر، والتخريب البيئي. واستجابة لهذه التحديات اشتق فولك وزملاؤه أربع قيم إيجابية لتصبح بمثابة قيم للنظام العالمي وهي: السلام، والعدالة الاجتماعية، وتحسين الوضع الاقتصادي well – being والتوازن البيئي. وهذه القيم يمكن اعتبارها الأهداف الأساسية للثورة العالمية المنشودة. ومن ناحية أخرى، ينبغي أن يكون هناك سعي لتحسين الوضع الاجتماعي من خلال تحقيق الأهداف التالية: حكومة عادلة، إشباع الحاجات المادية الأساسية، الأمن الاقتصادي، تعليم متميز للجميع، تنمية بيئية مستدامة، ضمان الحريات والحقوق، صياغة ثقافة أخلاقية، تكافؤ الفرص، تحقيق التجانس الاجتماعي، تحقيق العدل في أماكن العمل، صياغة ثقافة تؤكد على الحق في الحياة، خلق بيئة صحية، إعطاء الفرصة لتشجيع تحسين الوضع الشخصي لكل إنسان. وتتسم هذه الثورة العالمية المنشودة بثلاث سمات هي أنها ثورة غير عنيفة، وتهدف إلى حركة عالمية واسعة المدى وشاملة، وتسعى إلى أن تكون فعالة في ترقية الوضع الإنساني. أردنا بهذه الإشارة الموجزة لمشروع الثورة العالمية أن نبين أنه أحد المشاريع الكبرى التي تحاول أن تتعامل بفاعلية وشمولية مع التغيرات الكبرى التي لحقت ببنية المجتمع العالمي. وهناك حقيقة يجمع عليها كل العلماء الاجتماعيين في الوقت الراهن، وهي أن التغيرات الكبرى التي حدثت في بنية المجتمع العالمي أصبحت تؤثر في شكل مباشر في سياسات الدول، وفي مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة والاتصال. وبناء على ذلك يمكن القول إن صانع القرار القطري لم تعد حركته طليقة نسبياً كما كان الحال قبل بزوغ عصر العولمة، والذي سادت موجاته على وجه الخصوص بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الاشتراكية. في حقبة النظام الثنائي القطبية الذي دار فيها الصراع حاداً وعنيفاً بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، درج الباحثون على تقسيم العالم إلى ثلاثة عوالم: العالم الرأسمالي والعالم الاشتراكي والعالم الثالث، الذي كانت تندرج تحته عشرات من البلاد النامية. وجود عالمين كبيرين متنافسين، ونعني «العالم الحر» كما كان يطلق على العالم الرأسمالي، و «العالم الاشتراكي»، كان يسمح لصانعي القرار في دول العالم الثالث بهامش واسع للمناورة في اتخاذ القرارات سياسية كانت أو اقتصادية. غير أن السقوط المدوي للاتحاد السوفياتي والذي كان أشبه بالزلزال الذي قلب موازين القوة العالمية جميعاً، أدى في الواقع إلى انكشاف الدول النامية. لأن هذه الدول وجدت نفسها في العراء في ظل النظام الأحادي القطبية الذي تنفرد فيه الولايات المتحدة بالقوة ولم يعد أمامها أي هامش للمناورة كما كانت الحال في الماضي. وهكذا وجدت هذه الدول نفسها في مواجهة المؤسسات الدولية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والتي مارست ضغوطاً عنيفة عليها للتحول من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق، سعياً وراء تحرير الاقتصاد من خلال الإلغاء المنهجي للقطاع العام عن طريق الخصخصة، والتي أصبحت هي شعار المرحلة. * كاتب مصري العولمة والثورة الكونية (1)
مشاركة :