في واحدة من الرسائل التي كتبها العام 1988 الى أخيه ثيو، يقول فنسان فان غوغ: «إنني حقاً شغوف بأن أقيم بيتاً للفنانين، لكنْ بيتاً حقيقياً عملياً وليس منزلاً مليئاً بالأواني و «الحراتيق الصغيرة». كذلك فإنني أفكر في أن أزرع نبتتين عند الباب في برميلين صغيرين». والحقيقة أن فان غوغ كثيراً ما كان يعبر عن هذا الحلم في رسائله ولكن أيضاً في حديثه مع رفاقه. ومن المؤكد أن إلحاح هذه الفكرة لديه، يتناقض كلياً مع الصورة المعهودة عنه: صورة الأناني المعزول في مكان يخصّه لا يستقبل فيه أحداً بل بالكاد يحب أن يزور أو يزار. صحيح أن هذه الصورة صاحبت الفنان خلال السنتين الأخيرتين من حياته بعدما ساء مزاجه نتيجة المرض والمصائب التي حلت به، لكن ثمة مؤشرات، حتى خلال ذينك العامين تؤكد أنه لم يكن من السهل عليه أن يتخلى عن الحلم. ولعل الأبرز من بين تلك المؤشرات اللوحة التي رسمها في العام 1888 بعنوان «المنزل الأصفر» والتي صوّر فيها البيت الذي أقام فيه في مدينة آرل في الجنوب الفرنسي، ويحمل عنوان «2- شارع لامارتين». > والحقيقة أن هذا البيت إذا كان يبدو وكأنه بيت عادي في شارع عادي في مدينة هي أقرب الى العادية، سوف يتخذ في سياق حياة فان غوغ وعمله، خصوصية استثنائية، وذلك لأنه تحديداً كان البيت الذي يشكل مساهمته في المشروع الذي كان يلح عليه. وتروي لنا سيرة فان غوغ أن أول الفنانين الرفاق الذين دُعوا للإقامة مع فان غوغ هنا، إنما كان غوغان الذي حين زار فان غوغ عند إقامته فيه، فاتحه هذا الأخير بأهمية أن يقيم معه: «سوف نكون أنا وأنت صاحبي البيت حيث سنشكل النواة الصلبة، فيلحق بنا رفاق يقيمون معنا، في شكل دائم أو موقت، ما يخلق بيننا ألفة رفاقية وفنية تمكننا من أن نتغلب معاً على المشكلات التي قد تواجهنا في فننا كما في حياتنا». قال فان غوغ لغوغان الذي بدا عليه الارتياح للفكرة، لكنّ خلافاً ما لبث أن نشب بين الرفيقين غادر غوغان المكان إثره ضارباً بالمشروع عرض الحائط، كما تقول الحكاية. > مهما يكن من أمر، إذا كان المشروع قد تبخر أمام استفحال مزاج فان غوغ وأمراضه، فإن البيت نفسه ظل قائماً وقادراً على أن يجمع عدداً من الجيران والمعارف من حول فان غوغ خلال فترة من الوقت... ولسوف يدمَّر البيت نهائياً بعد عقود خلال القصف إبان الحرب العالمية الثانية. أما إذا كان البيت قد زال ولم يعد له أي وجود اليوم في ذلك المكان من آرل، فإن لوحة «البيت الأصفر» التي خلده فان غوغ فيها موجودة اليوم في متحف الرسام في امستردام (عرضها 91،5 سم وارتفاعها 72 سم)، تشهد على البيت الأخير من بيوت ذلك الرسام الذي كان شريداً محترفاً على أية حال. > من الأمور ذات الدلالة بالنسبة الى هذا البيت، اتساع مساحته. فهو في طابقيه يضم أربع غرف فسيحة اثنتان في الأسفل للرسم والمعيشة واستقبال الزوار. وغرفتا نوم في الطابق الأعلى، ما يؤكد رغبة فان غوغ الصادقة في أن يجعل البيت مكاناً لتجميع الأصدقاء وربما لخلق تيار فني من حول ذلك التجميع. > رسم فان غوغ مخطط اللوحة، والصورة الخارجية للبيت بالتالي، في بدايات صيف العام 1888، وهو من فوره بعث الإسكتش الى أخيه، من ناحية ليريه شكل بيته الجديد، ومن ناحية أخرى ليأخذ رأيه تبعاً لعادته المتبعة، في اللوحة نفسها مرفقاً برسالة يقول فيها: «إنها صورة للبيت القابع هنا تحت شمس حادة وسماء بلون «الكوبالت». إن الموضوع يبدو لي قاسياً وربما كان هذا هو السبب الذي يدفعني الى التمسك به، وأكثر من هذا، الى غزوه. وذلك بالتحديد لأن هذا البيت يبدو رائعاً وذا غرابة تحت أشعة الشمس الساطعة، ناهيك بطزاجة اللون الأزرق الغريبة التي لا يقارن بها أي لون أزرق آخر. وستلاحظ أن الأرضية كلها صفراء اللون أيضاً. وأعدك بأنني عما قريب سوف أرسل إليك رسماً أكثر وضوحاً للوحة، رسماً يتفوق على هذا الإسكتش الذي رسمته من رأسي.» وفي مجرى رسالته الى ثيو، يتابع فان غوغ قائلا أن البيت على الجانب الأيسر من اللوحة ذا المغاليق الخضراء اللون «هو ذاك الذي تلقي عليه شجرة بظلها. وما هذا سوى المطعم الذي أرتاده لتناول الطعام كل يوم». أما «صديقي ساعي البريد، - الذي سوف يخلده الرسام في واحدة من لوحاته البديعة – فيقيم عند آخر الطريق الى اليسار بين جسري سكة الحديد». وبالمناسبة يلفت فان غوغ نظر أخيه هنا الى أن «المقهى الليلي الذي رسمته في لوحة سابقة، غير موجود في هذه اللوحة»، مع أنه يوجد في حقيقة الأمر الى اليسار من المطعم. > ويذكر فان غوغ لأخيه هنا أن «ميللييه يجد كل هذا رهيباً، لكني قد لا أكون في حاجة لأن أقول انه من بين الناس الذين يرون أن من العبث أن يرسم الفنان بيته وبيوتاً عادية أخرى الى جانب دكان بقالة وأموراً من الحياة اليومية، لا نعمى فيها ولا جمال خاصاً يبدو ظاهراً للعيان منذ الوهلة الأولى، بيد أنني أتذكر جيداً كيف أن إميل زولا رسم صورة قلمية لجادة عادية في بداية روايته «القاتل»، كما أن غوستاف فلوبير رسم بقلمه أيضاً، مجرد مرسى بسيط للمراكب في منطقة لافيلليت عند بداية روايته «بوفار وبيكوشيه»... وهما روايتان لا يمكننا تجاهل قوتهما وجمالهما بأي حال من الأحوال». > مهما يكن من أمر، رسم فنسان غان غوغ في هذه اللوحة ما يعتبر أمراً ذا خاصية مزدوجة في آن معاً: بوصفه البيت الذي كان يعيش فيه في ذلك الحين، وبوصفه الحلم الذي داعبه بأن يعيش وسط مجموعة من الرفاق. أما عدم اكتمال ذلك الحلم فلا يمكن اعتباره طارئاً على حياة الرسام وتفكيره. إذ إن صديقه الفنان أوجين بوش الذي ارتبط معه بصداقة عميقة خلال فترة سابقة من حياته، يقول تحديداً معلقاً على لوحة «البيت الأصفر»: «لقد كنا ذات مرة قد اتفقنا، فنسان وأنا، ليس فقط على أن نحقق مشروع إقامة بيت جامع للفنانين، بل حتى على إقامة مشروع مزدوج يتكون من بيتين واحد في الشمال يتولى هو بنفسه أمره، وآخر في الجنوب أتولى أنا شؤونه. لكن مشروعنا سرعان ما تلاشى يومها فاعتقدت أن الحق عليه، ولكنه إذ شرع حقاً في تحقيق حلمه من جديد في الجنوب، فإنني بتّ على قناعة من أنه كان جاداً!». > لم يكن لدى فنسان فان غوغ على أية حال، حين رسم «البيت الأصفر» وقت كافٍ لأية مشاريع أخرى، فالرجل ما لبث أن رحل عن عالمنا بعد أقل من عامين من إنجاز اللوحة، حتى وإن كان قد رسم من بعدها عدداً كبيراً من لوحات أخرى يمثل معظمها مشاهد من مدينة آرل نفسها. وحين رحل يومين بعد إطلاقه النار على نفسه لم يكن الرسام قد تجاوز الثامنة والثلاثين من عمره هو الذي ولد العام 1853 في هولندا ليعيش آخر سنوات حياته متنقلاً بين المناطق الفرنسية منصرفاً الى الرسم الذي جعله مبرراً وحيداً لوجوده. ونعرف طبعاً بقية حكاية ذلك الفنان المدهش الذي عاش في فقر مدقع وأنتج عدداً مدهشاً من لوحات كانت بالكاد كافية لتطعمه، لكنها تعتبر اليوم بعض أغلى اللوحات الفنية ثمناً وقيمة في العالم. حقيقة أن هذا المنزل مرتبط كلية بالفكرة التي كانت تلحّ على الرسام. ومن هنا فإنه ربما رسمه كي يعبر في اللوحة عن الألفة التي كان يتمنى من البيت أن يخلقها. وذلك لأن «البيت الأصفر» تحديداً كان هو الذي أراد فان غوغ منه أن يكون مساهمته الأساسية في مشروع بيت الفنانين المنشود. > من ناحية مبدئية قد يكون هذا البيت بيتاً كسائر البيوت ويقع في شارع كسائر الشوارع.
مشاركة :