كتابات عالم الاجتماع زيغمونت بومان تحتفظ بقدرة تفسير وتحليل الانتقالات التي يحياها عالمنا المعاصر، كاشفة بعمق عن تشابك الأزمنة وتسمياتها. العربسعد القصاب [نُشرفي2016/12/31، العدد: 10500، ص(14)] زيغمونت بومان يبشر بالحداثة السائلة التي بدأت ولن تصل أبدا تونس- “كل المعاهدات مؤقتة، وعابرة، وصالحة حتى إشعار آخر”. هكذا وصف العصر الذي نعيشه. زيغمونت بومان الذي يرثي كل شكل من أشكال الثبات والديمومة والصلابة في عالمنا اليوم والتحولات القيمية التي أصابته. إن المديح الآن يمضي لجهة السرعة، التبدل، الميوعة، أو تلك الحالة التي أسماها بالسائلة، التي صار عالم اليوم يحيا توجهاتها، في سلوك إنسان ومجتمع الاستهلاك. ثمة مقارنة أقامها بين الحداثة الصلبة تلك القائمة على العلم، التنظيم، التقدم، مركزية الإنسان والمجتمع، الدولة الأمة، التبشير بعالم أفضل في ظل العقلانية، الليبرالية الديمقراطية، وبين ما أسماها الحداثة السائلة التي يحياها العصر، الآن، متمثلة بتفتيت المركز، تعظيم مجتمع الاستهلاك، وعولمة التجارة ورأس المال وتحرير السوق “الذي يؤدي إلى غياب القانون، والعنف المسلح” حيث يغذي الواحد منهما الآخر. مشروع حياة مغاير ما نعيشه في هذه اللحظة التاريخية الراهنة، شيء قائم على المفارقة، كوّن فعلا التغيير والتبدل، هما العادة الشديدة والاستقرار في حياتنا، وإحدى أكثر مزايا ثقافتنا اليومية والحياتية، تميزا، الفردية منها أو المجتمعية على حد سواء. التحولات الجوهرية الجارية في عالم اليوم، خلقت وضعا غير مسبوق للإنسان أو الإنسانية بكونهما فردا أو جماعة، وهي مازالت تثير تحديات غير معهودة. فالأشكال الاجتماعية التي حددت اختياراتنا وعززت أنماط السلوك المقبول في السابق، لم تعد قادرة على البقاء. لذلك فإن “مشروع الحياة”، يخضع الآن للانصهار والتحلل، حيث لم يعد بوسعه أن يكون مرجعية لأفعال الأفراد ولاستراتيجيات الوجود الاجتماعي، بأثر عمره القصير، كما أنه غير قادر جراء ذلك على استحداث ما هو متماسك ومتسق، بموازاة الانفصال الحاصل بين السلطة والسياسة، التي شكلت سابقا، مفهوم، الدولة الأمة. شيء من عدم اليقين يحكم مثل هذه العلاقة، الدولة الخاضعة إلى تأثير فضاء معولم يقع خارجها، الفاقدة للسيطرة الفعلية على مقاليد العمل السياسي، فيما السياسة أصبحت مشروعا قصير الأجل، و انتهت إلى أن تكون محلية ولا تحتفظ بقوة تحديد مسارات الفعل السياسي وأهدافه. لا الدولة، إذن، باستطاعتها حلّ مشكلاتها، ولا السياسة، أيضا، قادرة على جذب مواطنها، ما يعني تحول المسؤولية إلى قوى السوق المتغيرة. صحيفة الغارديان البريطانية تصف بومان بأنه "أحد علماء الاجتماع الأكثر نفوذا في العالم". فكتاباته الأولى وحتى بداية الثمانينات من القرن الماضي معنية بصراع الطبقات في المجتمع، حينما كان يوصف بأنه اشتراكي، ومع تسعينات ذلك القرن انتقل للحديث عن علاقات قائمة ما بين الاستهلاك وتوجهات ما بعد الحداثة يقول بومان “الفعل يستلزم القوة لتتمكن من اتخاذ القرارات، وبالطبع نحتاج السياسة، التي تعطيك القدرة لتقرر ما تحتاجه. لكن التزاوج بين القوة والسياسة انتهى في الدول القومية. القوة تمت عولمتها، لكن السياسة لا تزال شيئا محليا. يمكننا أن نعتبر أن السياسة فقدت ذراعيها، كما أن الجماهير توقفت عن الإيمان بالنظام الديمقراطي، لأنه لا يحفظ وعوده”. هكذا صارت الروابط الإنسانية هشة ومؤقتة، قائمة على الخوف من تقلبات سوق العمل، أو التنافس لغرض تحقيق المصلحة الفردية، متجاوزة أساس الخبرة الماضية والامتثال للقواعد، لجهة المرونة وملاحقة الالتزامات والولاءات المتعددة القائمة غالبا على قاعدة ” اللايقين”. هكذا بات المجتمع متغيرا بشكل غير نهائي. يقول بومان أيضا “نحن في فترة فاصلة بين عهدين، عهد كان لدينا فيه يقين كامل، وآخر لم تعد تجدي فيه الطرق القديمة لفعل الأشياء. لا نعلم ما الذي سيجرى ليحل محل تلك المشكلة، نحن نعمل على تجربة طرق جديدة لفعل الأشياء”. ضد العولمة ولد بومان في العام 1925 ببولندا، من أسرة بولندية يهودية. درس علم الاجتماع والفلسفة في جامعة وارسو. أصبح في عام 1954 محاضرا في الجامعة ذاتها، حتى العام 1968. كان ماركسيا ومتأثرا بالمفكر الايطالي أنطونيو غرامشي. تخلى عن جنسيته البولندية حتى يستطيع الخروج من بلده. درّس علم الاجتماع في جامعة ليدز-بريطانيا، وأصبح في ما بعد رئيسًا لقسمه. وذاع صيته في نهاية التسعينات من القرن العشرين، عبر كتابات تناولت وبشكل مضاد العولمة. انتقد بومان الكيان الصهيوني، الذي لم يكن في نظره مهتما بشيء اسمه السلام، مستخدما الهولوكوست كعذر لشرعنة أفعاله المتوحشة. شبّه بومان الجدار العازل الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية بالجدران التي كانت تضعها النازية في وارسو. نشر ما يقارب سبعة وخمسين كتابا والعشرات من المقالات، تهتم بمواضيع محددة مثل: العولمة، الحداثة وما بعد الحداثة، الاستهلاك، الحرية، النظام الأخلاقي، الأزمات الاجتماعية في البلدان الغربية. كتابات تحتفظ بقدرة تفسير وتحليل الانتقالات التي يحياها عالمنا المعاصر، كاشفة بعمق عن تشابك الأزمنة وتسمياتها. "غريب" بومان كائن مجازي غير مألوف كانت كتابات بومان الأولى وحتى بداية الثمانينات من القرن الماضي معنية بصراع الطبقات في المجتمع، حينما كان يصف نفسه بأنه اشتراكي، ومع تسعينات ذلك القرن انتقل للحديث عن علاقات قائمة ما بين الاستهلاك وتوجهات ما بعد الحداثة، إلا أنه مع بداية القرن الحالي، تجنب الاصطلاح الأخير جراء الفوضى التي أحيطت بتفسيراته، منتقلا إلى اصطلاح الحياة السائلة في مقابل الحياة الصلبة. ووصفته صحيفة “الغارديان” البريطانية بأنه “أحد علماء الاجتماع الأكثر نفوذاً في العالم”. يلتقي الغرباء بعضهم بعضا من دون ذكريات مشتركة، من دون تاريخ مشترك، “فوقت اللقاء، لا مجال للتجربة والخطأ، ولا استفادة من الأخطاء، ولا أمل في لقاء آخر”. غياب التفاعل، ومحاولة تجريد صفة الوجود المشترك، في مدن معاصرة باتت تحتشد بفضاءات خالية من الدلالات والتي أعدت لتقاوم الغرباء. الغريب مثل هذه المدن، أنتجت شخصية مجازية اسماها “الغريب”، ذلك الكائن المجازي، غير المألوف، والذي لا يمكن التحكم به، إنه حينا جذاب لا يضاهى في ظل واقع قائم على الاستهلاك، جديد كما الحال في الأطعمة، الموضة، أدوات الاستخدام اليومية الأخرى، وحينا آخر باعث على الخوف لكونه الغريب القادم من الخارج، المهدد لقيم الداخل، وللهوية المشتركة. تجنّب الغرباء بات مبدأ سلوكيا في الحياة المعاصرة، هؤلاء الذين يجب عدم التحدث إليهم، بدافعية فقدان القدرة على تصور الآخر وعدم الثقة بعالم يخلو من أي معنى ثابت. هو مرض أصاب الفضاء العام، وانتقل إلى السياسة، وتراجع بسببه فن الحوار والنقاش والتعرف إلى هذا الآخر المماثل لإنسانيتنا، فضاء طارد لتعدّد الأصوات، ولا يكترث للكلام عن المصالح المشتركة والمصير المشترك. ذلك ما بدأت ترحب به الحكومات تجاه موجات المهاجرين، بوصفهم الغرباء الآخرين. ثمة مسعى لا ينتهي لإقصاء الغريب الأجنبي المختلف وتجنبه، بأسباب هذا الشك الوجودي الذي بات يتجّذر في الفضاء العام، “إنه يتناغم بلا ريب مع انشغالنا المفرط بالتلوث وضرورة التطهير، وكذلك مع نزعتنا إلى تعليل الخطر الذي يهدّد سلامة الفرد بغزو الأجسام الغريبة”. بومان يجري مقارنة بين الحداثة الصلبة القائمة على العلم، التنظيم، التقدم، مركزية الإنسان والمجتمع، الدولة الأمة، التبشير بعالم أفضل في ظل العقلانية، الليبرالية الديمقراطية، وبين ما أسماها الحداثة السائلة التي يحياها العصر، الآن، متمثلة بتفتيت المركز، تعظيم مجتمع الاستهلاك، وعولمة التجارة ورأس المال وتحرير السوق خيارات لا تنتهي باتت الوسيلة في عالم اليوم هي التي تتقدم على الغايات. في ظل الحياة الجديدة هذه، عالم الحداثة السائلة، بات كل شيء يؤول إلى الفرد، وإلى الخيارات المفتوحة وغير المنتهية، أمامه، والتي يصعب حصرها. يصف بومان الأمر، مثل طاولة تحتشد بألوان عديدة وكبيرة من الطعام، لكن الأكّالون هم المستهلكون، والذين سيصعب عليهم تحديد أولياتهم، يذكر أن “البؤس الذي يعانيه المستهلكون مرجعه الكثرة المفرطة للخيارات لا قلتها”. إن ثمن ذلك هو اللايقين الدائم والرغبة التي لا يمكن إشباعها. هو يذكر “في سباق الاستهلاك، يتحرك خط الوصول دوما بسرعة تفوق أسرع العدائين”، لكنه يبقى سباقا من دون نهاية، لقد بدأت ولكن لن تصل أبدا. على الرغم من أن الاستهلاك عالم يتبع فيه الإنسان غيره، لكنه يبقى هو الشخص الذي يختار ما يرغب فيه، وهو الذي يسمح لسلطة ما في أن تكون سلطة من خلال هذا الفعل. في عالم الاستهلاك هذا، لا وجود لسلطة رادعة، بل سلطة ناعمة تتودد إلى صاحب الاختيار، تحاول إغواءه وإغراءه بشكل دائم. ثمة نماذج وأشياء تتمتع بجاذبية ما دام الفرد لم يختبرها. في هذا العالم الحاشد بوسائل مغرية لا يمكن استنزافها والانتهاء منها، لا بد أن تتحول الرغبة إلى غاية وحيدة، فالأمر لا يتعلق بالأطعمة والسيارات وأثاث المنزل، وتلك السلع المعروضة في الأسواق الكبيرة والمحال التجارية، أو بإشباع الحاجات بل في الرغبة التي يصفها بومان “تلك الكينونة التي لا تشير بالأساس إلى شيء خارجها، إنها قوة دافعة تلد نفسها بنفسها، وتستمد حركتها من داخلها بحيث لا تحتاج إلى تسويغ أو علة تبرر وجودها”. بومان لا يمكن التحكم فيه، إنه حينا جذاب لا يضاهى في ظل واقع قائم على الاستهلاك، وحينا آخر باعث على الخوف لكونه الغريب القادم من الخارج تحوّل الاستهلاك كي يصبح أحد المظاهر القيمية في عصرنا، إنه اللذة التي تبعث على البهجة والانبساط والطقس اليومي لطرد اللايقين وعدم الأمان الذي يشعر به المتسوق من أجل الوعد باليقين، حيث امتلاك السلعة يضاهي امتلاك الذات. منذ اكتشاف التفكير في عالم سعيد سمّي “يوتوبيا”، كان الإنسان يسعى لامتلاك الحكمة اللازمة لبناء عالم أفضل خال من الخوف، متفائلا ومتمتعا بالفطنة لما ينبغي أن يكون عليه هذا المكان السعيد، بل بات ثمة إيمان من أن مجتمعا “من دون يوتوبيا إنما هو مجتمع لا يطاق العيش فيه”. لكن بومان يشير إلى أن التقدم الإنساني كان طاردا لهكذا حلم. اصطلاح بات يدعو للحذر لكونه يعنى بالبقاء الفردي أكثر ممّا يحيل إلى معان تدعو إلى بناء إنساني قائم على المشاركة، إذ لم يتم التعامل مع النموذج اليوتوبي بالجدة المطلوبة، فلقد تم تسليم الأمر لقوى العولمة التي باتت ترشد العالم إلى وجهات غير مستقرة، في غياب تأثير الدولة الأمة التي فقدت تأثيرها في مجرى الأمور. لقد تحولت “اليوتوبيا” إلى تاريخ، بل إلى لعبة تفاعلية مجانية على بعض مواقع الإنترنت، يذكر بومان أنه خلال تفحصه لها على الشبكة العنكبوتية وقراءته لعيّنة إحصائية عشوائية، وجد أن توظيف هذا المصطلح يتم في الغالب من قبل “شركات السياحة والديكور ومستحضرات التجميل وبيوت الموضة”. في عصر الاستهلاك هذا، والذي يخضع للنزعة الفردية ولتحرير السوق يقول زيغمونت “لا أمل للمرء بتحويل العالم إلى مكان أفضل للعيش، بل لا أمل له بتأمين ذلك المكان الأفضل في العالم”. إن نضال الإنسان اليوم يتجلّى في عدم الخسارة كي لا يجد نفسه فريسة، فالأمر يحتاج إلى اليقظة الدائمة والحركة بأعلى سرعة ممكنة. :: اقرأ أيضاً الأنبا مكاريوس سياسي بعباءة راهب يثير تساؤلات المصريين يحيى الحوثي حاكم صنعاء المطلق الذي يحمد الله على وجود أميركا وإسرائيل
مشاركة :