أفلام السّير عادة ما تتناول حيوات شخصيات بارزة في تاريخ الإنسانية، ومن العادة أيضاً ألا يعبر الفيلم عن حياة من هذه الحيوات بشكل وافٍ؛ لأن الإنجازات الضخمة في تاريخ البشرية، تبقى عصية على الاختزال، ولكن رغم هذه العقبة الفنية فإن تخليد هذه الشخصيات يبقى أمراً في غاية الأهمية، من أجل التأريخ لها والعبور بها إلى الأجيال. شخصية عظيمة مثل نيلسون مانديلا (الذي فارقنا في الخامس من ديسمبر 2013)؛ لا يمكن أن يعبر عنها عمل مهما بلغت ضخامته، لأن إنجازاته تبقى أكبر من أن يعبر عنها فيلم سينمائي أو كتاب سيرة، فحياة نيلسون مانديلا عصية على الإحاطة التامة مهما كانت وسيلتنا للاقتراب منها، لأن الرجل كان يحمل أفكاراً ومبادئ عظيمة، وحدها الذاكرة الكونية تتسع لحفظها. لكن التأريخ له الدور الأبرز في الاحتفاظ بملامح من شخصيته والسفر بها عبر الزمن، وفي هذا السياق فالاحتفاء بماديبا كان كثيراً بدليل عشرات الكتب التي تناولت حياته من مختلف جوانبها، وحتى السينما كان لها نصيبها من ذلك، فهناك أفلام متعددة تناولت قصة مانديلا، نذكر منها: (رقصة النهاية الكبيرة) 2004، وفيلم (الوداع يا أولاد)، و(نهاية اللعبة)، وفي سنة 2009 قام المخرج كلينت إستوود بإخراج فيلم (لا يقهر Invictus) الذي سنتذكر عبره بعضاً من ملامح نيلسون مانديلا. من المفيد هنا أن نذَكِّر بأن الأعمال التي سبقت فيلم لا يقهر جميعها لم ترق إلى الإنتاج الذي يتناسب مع هذه الشخصية العظيمة، لأن حضور هذه الشخصية في كل هذه الأعمال لم يكن حضوراً طاغياً ومحورياً، وهو ما يجعل الفيلم الذي نحن بصدد الحديث عنه أهم وأضخم إنتاج سينمائي عن حياة مانديلا، كما أن حضور مانديلا في كل هذه الأعمال السابقة يختلف عن حضوره في فيلم لا يقهر الذي ركز على أشياء قد تبدو ذات قيمة ثانوية في حياة ماديبا لكنها تحمل عمقاً وثقلاً كبيرين. عنوان الفيلم Invictus هو كلمة يونانية تعني (لا يقهر)، والفيلم مقتبس عن كتاب بعنوان (ملاعبة العدو واللعبة التي صنعت شعباً) للكاتب جون كارلين. وفكرة الفيلم هي من أغرب الأفكار التي قد نسمع بها، حيث كان الممثل مورغان فريمان لا يخفي حلمه في تجسيد فيلم عن حياة نيلسون مانديلا، ورغم كل الكتابات عنه فلم يقتنع بأي من النصوص، سواء التي عرضت عليه، أو التي بحث عنها بنفسه، وفي عمق هذه الأمنية سيلتقي سنة 2006 بمؤلف سيرة مُلَاعَبة العدوّ، وسيعجب فريمان كثيراً بهذا النص، وسيتابع عملية تحويله إلى سيناريو ويعرضه بعد ذلك على المخرج كلينت إستوود وعلى شركة وورنر برادرز، فتم تصويره سنة 2009 وهي السنة التي صادفت عيد الميلاد 90 لمانديلا وإطلاق تاريخ ميلاده واسمه على يوم عالمي من أجل الإنسانية. لم يقتحم الفيلم ولا النص الأصلي حياة مانديلا بشكل مباشر، حيث يركز الفيلم على اهتمام مانديلا المتزايد بفريق رياضة الركبي الذي يمثل جنوب أفريقيا والذي يعتبر رمزاً قومياً من خلال رحلته خلال البطولة العالمية التي نظمتها جنوب أفريقيا وفازت بها سنة 1995. فعندما خرج مانديلا من السجن، وتولى الرئاسة، كان هذا الفريق ضعيفاً وغير مؤهل لخوض غمار البطولة، بالإضافة إلى أن أغلب السكان السود يرون في هذا الفريق المكون من البيض امتداداً لزمن القهر ويعتبرونه تمثيلاً لفئة البيض فقط، ومن هنا عُقد اجتماع للتصويت على إلغاء فريق الركبي وتغيير ألوانه، وسيذهب مانديلا إلى مكان الاجتماع ويعارض هذا القرار معَرِّضاً شعبيته للخطر رغم أن كل من في القاعة رفض فكرته. لقد ألقى خطاباً يعبر عن رؤيته للمستقبل (فالأبيض الذي كنت أعتبره عدواً بالأمس أصبح اليوم أخاً وشريكاً في الوطن، فلماذا سأحرمه من الفريق الذي يحبه). لم يكن هذا هو الموقف الوحيد الذي أراد من خلاله أن يقدم دروساً في التسامح، فقبل ذلك وعندما توجه إلى مكتبه الرئاسي لأول مرة كان كل الموظفين البيض على اقتناع بأن الطرد هو مصيرهم إلى درجة أن بعضهم قد ترك عمله بمجرد تولي مانديلا الرئاسة، ولكن مانديلا جمع كل الموظفين وألقى عليهم خطاباً مؤثراً قال فيه: «بالتأكيد إذا أردتم الرحيل فهذا حقكم، أما إذا شعرتم بداخلكم أنكم غير مستعدين للعمل مع حكومتكم الجديدة فمن الأفضل أن ترحلوا فوراً، ولكن إن كنتم سترحلون بسبب خوفكم من أن لغتكم أو لون بشرتكم أو رؤساءكم السابقين قد يحولون بينكم وعملكم هنا فينبغي أن أخبركم بأنه لا داعي للخوف.. الحاضر يبقى والماضي قد مضى». ثم عين طاقم حراسه من البيض والسود رغم معارضة السود لذلك. لاحقاً سنفهم سبب إصرار مانديلا على فريق الركبي، حيث سيجعل هذه الرياضة أداة لنبذ العنصرية، وسيستدعي أولاً اللاعب وقائد الفريق (فرانسوا بينار/ مات ديمون) لشرب الشاي معه، سيتفاجأ فرانسوا بهذه الدعوة وسيذهب وهو خائف، ما الذي يريده الرئيس من لاعب؟! كل المخاوف ستزول بمجرد بداية الحوار بينهما، وسيتعرف فرنسوا على شخصية مانديلا العظيمة حيث سينصحه بطريقة رائعة بإلهام زملائه بالفريق مذكراً إياه بالقصيدة التي كانت تلهمه وهو في السجن. فكرة مانديلا وصلت إلى الفريق عبر فرنسوا وإلى كل الناس عبر فريق الركبي الذي نظم رحلات إلى كل المدن والأحياء الفقيرة، وسيقاتل الفريق وسيفوز بالبطولة، والأكثر من ذلك سيقضي على الكثير من فصول العنصرية في هذا البلد عندما يقف الكل وراء فريق واحد. فنياً لا يمكننا اعتبار هذا العمل أجمل أعمال كلينت إستوود كمُخرج، ليس لتواضعه ولكن لأن إستوود له أعمال أخرى متفوقة، ربما لأنه يقف عاجزاً أمام أفلام السير التي تقيده ولا تعطيه حرية مطلقة، لكنه في هذا العمل أعطى حرية كبيرة لممثليه خصوصاً مورغان فريمان. إضافة إلى عنايته الخاصة بالفضاء حيث عبر عن زمن الأحداث بطريقة دقيقة وكان يوائم بين اللقطات المقطعية الكبرى عندما يتعلق الأمر بفضح مشاعر البيض عن السود أو العكس، وركَّب صورة منسجمة بين المقاطع الحوارية والمشاهد خصوصاً حوارات مانديلا التي كان يبث من خلالها رسائله عن السلام. فيلم كهذا كان يحتاج إلى أداء قوي وممثل بعواطف كبيرة، وهذا الأمر انطبق تماماً على مورغان فريمان، فهو من خيرة ممثلي هوليود، بالإضافة إلى عشقه الكبير لشخصية مانديلا وحلمه الذي تحقق في هذا الفيلم الذي جاء هو بفكرته، لذلك وجدنا صدى لصوت مانديلا في صوته وتحركاته ونظراته، لأن الأمر عنده ليس أداء دور في فيلم وأخذ أجرة ومشاهدة نجاحه، فالمسألة وجودية بالنسبة له والدور سيبقى للتاريخ. أما مات ديمون فقد أضاف البريق إلى الفيلم، بغض النظر عن أدائه الذي كان مميزاً كالعادة. الجميل في هذا الفيلم أن السرد فيه كان يمضي بطريقة سلسة، وأن الأحداث التي شاهدناها كانت تُشير إلى أحداث خارج القصة حتى وإن لم يقلها الفيلم، فالتكثيف لم يكن اعتيادياً، بل كان يفتح أفقاً جديدة للتلقي وربط أحداث الفيلم بأحداث لم يسع المجال لتضمينها القصة. وبصمة السيناريست أنتوني بيكام، كانت بادية جداً خصوصاً في اقتناص اللحظات المناسبة لطرح الأفكار العظيمة، وكذلك انتباهه لنقطة أساسية، هي الحوار الجانبي الذي يكون مصدره ممثلين خارج دائرة التقاط الكاميرا، لأن هذه الحوارات كانت تفضح العواطف وتعبر عن دواخل الناس ورؤيتهم. قد يبدو أن هذا العمل لم يركز بشكل كبير على حياة مانديلا، لكن العكس هو الصحيح، لأن عمق فلسفة مانديلا ونضاله كانا باديين، والفيلم استطاع أن يقدم أهم مراحل نضاله ضد التمييز العنصري بسمو وتسامح كبيرين، وأهمية هذا الفيلم أنه مزج بين الرياضة والنضال واستطاع أن يخرج بالقصة إلى دائرة جمهور واسعة تتجاوز حدود النخبة.
مشاركة :