جماليات وآفاق في العربية

  • 1/2/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

د. بهجت الحديثي تميزت اللغة العربية بخصائص لا نظير لها في أية لغة من لغات العالم، واختفت وراء جمالياتها أسرار يستطيع إدراكها من أوتي قدراً قليلاً أو كثيراً من الإلمام باللغة العربية، ولا سيما الإنسان العربي الذي أدرك بسليقته وفطرته تلك الأسرار أو بعضاً منها في أقل تقدير. وما الاتساع في اللغة العربية إلا مظهر من مظاهر قدرة العربية على الشمولية والاتساع بمقدار ما يتسع الفكر الإنساني. ومن المعروف أن أوسع اللغات معجماً تملكها أوسع الأمم حضارة وفكراً، وقد امتلكت العربية هذه القدرة بما أُتيح لها من تاريخ طويل وتجربة حضارية، وحيوية مطردة، وقدرة على التطور والتنوع والنمو الدلالي في مفرداتها كافة، مما جعلها تفيض بأسرار لطيفة وكم من الحشود الجمالية، ومن الحقائق المدهشة، وكل ذلك يبدو واضحاً في تحولات المعاني واتساع الدلالة بالانتقال من المجال الحسي إلى المجال المعنوي لعلاقة المشابهة أو لغيرها من علامات المجاز اللغوي. ولا شك أن القرآن الكريم رسخ هذه الظواهر ومنحها آماداً أرحب. لقد حقق القرآن الكريم هذا الإنجاز اللغوي البالغ الأثر، كما كان لعلوم الفقه واللغة والأدب والشعر نصيبها الوافر في هذا المجال. إن الأمثلة على هذا كثيرة، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مفردة العقيدة التي يستخدمها الناس على مختلف مستوياتهم واتجاهاتهم مع أن أغلب الناطقين بها لا يعرفون من معانيها تاريخاً طويلاً. فأصل العقيدة اللغوي: من عقد الحبل والبيع والعهد، يعقده بمعنى: شدَّه. وأعتقد الشيء: صدَّق وثبَّت فلان الأمر، صدَّقه وعقد قلبه وضميره. والعقيدة: الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده، وفي الدين ما يقصد به الاعتقاد دون العمل، وهي من (عقد) بمعنى صدَّق. والعقيدة بهذا المعنى هي ما انطوى عليه القلب والضمير، أو هي ما تَدَيَّن به الإنسان واعتقده، والاعتقاد هو الإيمان المطابق للواقع الثابت بالدليل - قال الله سبحانه وتعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤآخذكم بما عقدتم الإيمان (المائدة: 88). والعقود هي أوثق العهود ومنها قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود (المائدة: 1). فكلمة عقد هنا تأتي بمعنى وثق، ومنه اعتقد بمعنى صدَّق واستوفى واستوثق، اعتقد كذا: أي صدَّق به مثل: اعتقد فلان الأمر إذا آمن به وعقد عليه قلبه، فالعقائد - على وفق هذا - هي الأمور التي تُصدِّق بها النفوس وتطمئن إليها القلوب وتكون يقيناً عند أصحابها لا يمازحها ريب ولا يخالطها شك. ومنهم من يرى أن أصل العقيدة هو الشيء الثمين، يعقد عليه الإنسان منديله حتى لا يضيع أو الأمر المهم يعقد الإنسان على إصبعه الخنصر خيطاً من الصوف حتى لا ينساه، وكان العرب يقولون عن الأمر المهم أمرٌ يُعقد عليه بالخناصر، ثم أصبحت العقيدة ما يستقر في القلب من أمور الفكر ثم أصبحت تعني ما يفرض الدين تصديقه والإيمان به وعدم التفريط به. ومما تقدم نرى كيف اتسع المعنى الدلالي للفظة العقيدة، وكيف انتقل ذلك المعنى من المجال الحسي إلى المجال المعنوي، وهذا غيض من فيض مما اتسمت به كل مفردة عن مفردات اللغة العربية، وبما زخرت به من دلالات حقيقية ومجازية لا حصر لها مما يقوم شاهداً عدلاً على تميز اللغة وآمادها الفكرية والحضارية ذات التاريخ الطويل المتجدد.

مشاركة :