سخر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب من الوكالات الاستخبارية الأميركية واصفا إياها بالعاجزة، وأنها لا تعلم ما يعلمه هو، في مؤشر قوي على أن الرجل مقبل على صدامات متعددة الجبهات قد يكون أخطرها تلك الناشبة مع أعوانه قبل خصومه. وأعلن ترامب عن نيته عقد مؤتمر صحافي في الحادي عشر من الشهر الحالي في نيويورك، سيكون الأول له منذ انتخابه، يتوقع المراقبون أن يكشف خلاله عما يملكه من معلومات تجعله يخالف الوكالات الاستخبارية الأميركية في استنتاجها عن القرصنة الروسية. وفي سياق تغريدات متتالية نشرها ترامب في صفحته الشخصية على موقع «تويتر»، أشار الرئيس المنتخب إلى أن الإيجاز الاستخباري الذي كان مقررا أن يتلقاه يوم الثلاثاء من الأجهزة الاستخبارية عن مسألة «ما يسمى القرصنة الروسية»، تأجل إلى الأسبوع المقبل بدلا من تقديمه هذا الأسبوع. وتهكم ترامب على هذا التأجيل بقوله: «يبدو أنهم احتاجوا إلى مزيد من الوقت لتقديم صياغة مرافعتهم في القضية». ومن اللافت أن ترامب استعمل مصطلح «ما يسمى» في وصفه لـ«القرصنة الروسية»، في دلالة على أنه لم يقتنع بعد بتأكيدات الأجهزة الاستخبارية الأميركية عن وقوف روسيا وراء اختراق خوادم وحواسيب تابعة لحملة المرشحة الديمقراطية السابقة للرئاسة هيلاري كلينتون. واستشهد ترامب بما قاله مؤسس موقع ويكيليكس للتسريبات، جوليان أسانج، وهو أن أي صبي في الرابعة عشرة من عمره كان بمقدوره أن يخترق مراسلات كبار مسؤولي الحزب الديمقراطي. ولفت إلى ما قاله أسانج من أن معلوماته عن حملة المرشحة الديمقراطية السابقة للرئاسة هيلاري كلينتون، لم يستقها من روسيا، وإنما من مصادر أخرى، وهو ما يتناقض مع ما توصلت إليه الوكالات الاستخبارية الأميركية الرئيسية. وتساءل ترامب عن سبب الإهمال الشديد في حماية المعلومات، محملا الحزب الديمقراطي مسؤولية التسيب والتقصير في تخزين البيانات المملوكة لكبار قادته، بالمقارنة مع ما يتخذه الحزب الجمهوري من احتياطات لتحصين قاعدة بياناته. كما تساءل ترامب عن سبب عدم الرد على روسيا على الفور إن كانت مزاعم الاختراق صحيحة. وفي رد مباشر من الوكالات الاستخبارية على اتهام ترامب لها بتأجيل الموعد المفترض لتقديم الإيجاز الاستخباري عن القرصنة الروسية، نفى مسؤولون أمنيون رفيعو المستوى أن يكون موعد الإيجاز قد تأجل، قائلين إن الموعد لم يكن قد تم تحديده وبالتالي لا صحة لمقوله إنه تم تأجيله. ونقلت محطة «سي إن إن» - التي يتهمها ترامب بمعاداته - عن المسؤولين الأمنيين، دون أن تورد أسماءهم، القول إن ترامب تلقى بالفعل يوم الثلاثاء إيجازا استخباريا سريا هو ذاته الذي يتلقاه الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما. وأكد المسؤولون أن الإيجاز الاستخباري تطرق فيما تطرق إليه إلى مسألة القرصنة الروسية، وإن كان الأمر قد تم بصورة موسعة، حيث تقرر تخصيص تقرير منفصل للقضية سيتم تقديمه للرئيس المنتخب، في القريب العاجل، وفقا لمحطة «سي إن إن». ويبدو أن الرئيس المنتخب كان يأمل في أن يتلقى الإيجاز الاستخباري بشأن القضية قبل مؤتمره الصحافي كي يتسنى له تحديد موقفه من المسألة أمام الصحافيين، في حين أن الوكالات الاستخبارية تخشى أن يعمد ترامب إلى كشف بعض المعلومات المصنفة «سرية»، وهو ما قد يعرض مصادرها الروسية للخطر. اعتاد الرؤساء الأميركيون أن يغتنموا الفرصة الزمنية للفترة الواقعة بين انتخابهم وأدائهم القسم الدستوري للراحة والاستجمام من عناء حملتهم الانتخابية الطويلة وتهيئة أنفسهم لمباشرة عملهم المقبل. غير أن الرئيس المنتخب دونالد ترامب اخترق هذه القاعدة منخرطا في جدل بشأن سياسات لا تزال عمليا ونظريا من مهام الرئيس المقيم في البيت الأبيض. وكشف الجدل الذي أقحم ترامب نفسه فيه عن مؤشرات لصدامات سياسية قوية على الصعيدين الداخلي والخارجي قد لا تقتصر على الخصوم بل ستشمل على الأرجح كثيرا من الأعوان والحلفاء. وفضلا عن كشف ترامب عن خلافه أو اختلافه مع الأجهزة الاستخبارية المفترض أن يعتمد عليها بشكل كبير في رسم سياساته المقبلة، فقد أبدى كذلك اختلافا مع كل من قادة الحزب الجمهوري والديمقراطي فيما يتعلق بإلغاء برنامج التأمين الصحي المعروف باسم «أوباما كير»، دون أن يقدم مشروعا بديلا، الأمر الذي أثار مخاوف الحزبين الكبيرين بمن فيهم أولئك المؤيدون للإلغاء. (تفاصيل محاولات أوباما الأخيرة للإبقاء على برنامجه الصحي على قيد الحياة منشورة في مساحة أخرى من هذه الصفحة). وفتح ترامب جبهة صدام أخرى مع رجال الأعمال والشركات الكبرى التي يطالبها بنقل أعمالها من الصين والمكسيك إلى الأراضي الأميركية للمساهمة في توفير الوظائف للأميركيين بدلا من خدمة اقتصاد شعوب منافسة للولايات المتحدة. وفي هذا السياق زعم ترامب أن جهوده التي يقوم بها بصورة غير رسمية أسفرت مؤخرا عن قرار شركة فورد لصناعة السيارات بالعدول عن إقامة مصانع جديدة خارج الأراضي الأميركية والتوسع بدلا من ذلك في شبكة مصانع الشركة القائمة حاليا في ولاية ميتشغان، الأمر الذي سوف يوفر نحو 700 فرصة عمل لمواطني الولاية (نسبة كبيرة منهم من العرب الأميركيين). وبمجرد أن تفاخر ترامب بأن الفضل يعود إليه في القرار الذي اتخذته شركة فورد سرعان ما سارعت الشركة بإبلاغ محطة «سي إن إن» أن قرارها قائم على حيثيات تجارية بحتة لا علاقة لها بالسياسة، وهو ما اعتبر نفيا غير مباشر لمزاعم ترامب. كما اعتبر مؤشرا على تصاعد محتمل للجدل وربما المواجهات بين ترامب الرئيس ورجال المال والأعمال الذين ينظر ترامب إلى بعضهم على أنهم منافسون له تجاريا، وخصوم سياسيون في آن واحد. أما على الصعيد الخارجي، فإن الصدامات السياسية المتوقع نشوبها مع حلفاء الولايات المتحدة ربما تكون أكثر وأخطر من تلك المواجهات المعتادة مع خصوم الولايات المتحدة، فضلا عن أن بعض مواقف ترامب في العلاقات الخارجية سوف تسبب له بلا شك مصاعب جمة داخليا. ويأتي التعامل مع روسيا على رأس القضايا المتوقع أن تثير خلافات داخلية بين ترامب وأعوانه لكون الرجل على ما يبدو يسعى لإقامة علاقات وثيقة مع الرئيس الروسي فلادمير بوتين، الذي يعتبره كثير من السياسيين الأميركيين، جمهوريين وديمقراطيين، خصما سياسيا عنيدا لبلادهم. فيما يتعلق بمسار التعامل مع إيران يتوقع كثير من المحليين الأميركيين أن يسفر موقف ترامب الساعي لإلغاء الاتفاق النووي مع إيران إلى فتح جبهة خارجية قد لا تكون مع إيران بقدر ما ستكون مع الحلفاء الأوروبيين المشاركين في الاتفاق الدولي المشار إليه. وعلى الصعيد الخارجي أيضا من المحتمل أن يؤدي القرار المرتقب لترامب بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس إلى تعميق الخلافات القائمة منذ الآن مع مؤسسة الدبلوماسية الأميركية التي تحرص دوما على تجنب اتخاذ القرارات الصادمة المفاجئة. غير أن أهم الملفات الخارجية خطورة وأكثرها حساسية سيكون على الأرجح ملف العلاقات مع كوريا الشمالية؛ فقد تعهد الرئيس ترامب في تغريدة له هذا الأسبوع بعدم السماح لكوريا الشمالية باختبار صاروخ باليستي عابر للقارات أبدا. ويقول المراقبون إن الحديث عن منع مثل هذا الاختبار أسهل بكثير من تنفيذه على أرض الواقع، بعد تسلمه السلطة في 20 يناير (كانون الثاني). ويخشى بعض السياسيين الأميركيين من أن يقدم ترامب على اتخاذ إجراء عسكري ضد كوريا الشمالية، وهو ما يهدد الاستقرار العالمي وينذر بمواجهات نووية. ويتشعب التحدي القائم مع كوريا الشمالية ليقود إلى خلافات فرعية مع الصين وغيرها من الجيران، فقد اتهم ترامب الصين بأنها لا تساهم في احتواء جارتها رغم دعم بكين لجولات متعاقبة من عقوبات الأمم المتحدة على بيونغيانغ. لكن وزارة الخارجية الأميركية لا تتفق مع قول ترامب إن الصين لا تساعد. ويحذر مراقبون من أن أسلوب ترامب الصدامي وتحذيراته القوية قد تؤدي إلى تغيير نظره عنه لاحقا في حال تجاوز الخصوم الخارجيون خطوطه الحمراء. وفي هذا السياق نقلت وكالة «رويترز» للأنباء عن جيمس – أكتون، المدير المساعد لبرنامج السياسة النووية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إن ترامب وضع بتغريدته عن كوريا الشمالية خطا أحمر قد يستخدم لاحقا في الحكم عليه، مثل تحذير أوباما لسوريا عام 2012 من استخدام الأسلحة الكيماوية. وأضاف: «كانت تغريدة مندفعة لترامب في ضوء التحديات الهائلة لاحتواء البرامج النووية والصاروخية لكوريا الشمالية». وحذر خبراء آخرون من أن لجوء ترامب للخيار العسكري في التعامل مع كوريا الشمالية غير مضمون النجاح حيث أشاروا إلى صعوبات عملية لا حصر لها. وفي هذا السياق، قال الخبير بمعهد ميدلبري للدراسات الدولية في مونتيري بولاية كاليفورنيا، جيفري لويس، إن تدمير البرامج النووية والصاروخية لكوريا الشمالية سيكون مهمة ضخمة ومحفوفة بالمخاطر. ونقلت وكالة «رويترز» عن لويس القول إن الأمر سيتطلب «حملة عسكرية كبيرة... على مدى فترة طويلة بعض الشيء»، مشيرا إلى أن ما يزيد من صعوبتها أن مواقع الاختبارات النووية والصاروخية الرئيسية في كوريا الشمالية تقع في أنحاء متفرقة من البلاد كما تقع المصانع التي توفر لها الإمدادات في أقاليم مختلفة. وعلى الرغم من أن ترامب لم يحدد تفاصيل سياسته تجاه كوريا الشمالية، فإن مستشارا لفريقه الانتقالي قال إنه يعتقد أن «فترة من العقوبات الشديدة» يجب أن تكون «جزءا رئيسيا من أي مناقشة للخيارات المتاحة في هذا المجال». وقال فرانك جانوزي، وهو مسؤول سابق بالخارجية يرأس منتدى (مانزفيلد فاونديشين آسيا) للحوار، إن كوريا الشمالية دأبت منذ وقت طويل على تحدي العقوبات الأميركية وعقوبات الأمم المتحدة والمضي في برامجها النووية والصاروخية. وأضاف أن «تغريدات ترامب لن تغير ذلك».
مشاركة :