الشارقة: علاء الدين محمود يمارس الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا 1930 - 2004، في كتاباته المتأخرة هوايته المحببة، باحثاً عن المقصي من النص وما يقف خلف الأشياء فذلك هو جوهر التفكيك، منقباً في تاريخ المفاهيم، وفي تكوينها ونشأتها، وربما لن يكون كتابه تاريخ الكذب، بترجمة رشيد بازي، لن يكون إلا محققا لتلك الدهاليز التي يغشاها دريدا وفقاً لمنهجه في التفكيك، متجاوزاً ما هو سائد عن المفهوم، فمن أبواب متفرقة يلج دريدا بمنهجه التفكيكي إلى رصد الظاهرة تاريخيا والتباساتها مع مشاعر أخرى. دريدا المولع بالدلالات اللغوية، أراد في هذا المؤلف أن يشير إلى ضرورة التمايز بين تاريخ الكذب كمفهوم وتاريخه في حد ذاته، والذي يمثل تاريخا وثقافة يؤثران في الممارسات والأساليب والدوافع والتقنيات، ومختلف الطرق والنتائج التي يمكن ربطها بالكذب، والتي تختلف من حضارة إلى أخرى، بل وحتى داخل الحضارة الواحدة نفسها، ويعتمد المؤلف على مقاربة سيميو - لغوية، إذ يلاحظ أن ألفاظاً ومفاهيم عدّة التبست بالكذب، مثل الخطأ والحماقة والخبث والأيديولوجيا وحتى الشعر، هذه الملابسات تصنع فضاءً ضبابياً حول الكلمة، هذا على صعيد أول، قبل أن يتساءل إن كان تمثّل الظاهرة يحدث بالشكل نفسه بين حضارة وأخرى، وخصوصاً في مستويات مختلفة منها، كما هي الحال في الحضارة الغربية التي هي تراكم إغريقي، روماني، يهودي - مسيحي. ويستدعي دريدا ما ذهب إليه مونتاني حول الكذب عندما قال: لو كان للكذب - كما هو شأن الحقيقة - وجها واحدا لكانت العلاقات بيننا أحسن ممّا عليه، فيكفي أن نحمل على محمل صدق نقيض ما ينطق به الكاذب منّا، إلا أنّ نقيض الحقيقة له مئة ألف وجه ولا يمكن الإلمام كلياً بالحقل الذي يشغله. ويبحث الكتاب عن تعريف للكذب، أي ما المقصود بالكذب؟، ويطرح دريدا هنا عددا من الأسئلة ليخلص إلى أن فعل الكذب يعني أن نتوجه بالكلام إلى آخرين، حيث لا يمكن لنا الكذب إلا على آخرين، ومن المستحيل هنا الكذب على الذات إلا باعتبارها بمثابة آخر مستقل، يجب، كما يرى جان جاك روسو، الالتزام بواجب الصدق تجاهه، وتتم ممارسة فعل الكذب على الآخر لكي يتم إسماعه قولاً أو مجموعة من الأقوال الإنجازية، فهي أفعال مقصودة يُقام بها تجاه الآخرين بقصد خداعهم، أو الحاق الأذى بهم، أو تضليلهم، وذلك بمجرد دفعهم إلى اعتقاد أشياء يعرف الكاذب أنها خاطئة. ويبقى المقصد أولاً وأخيراً هو أهم اعتبار، وهنا يستدعي دريدا القديس أوغسطين الذي يرى باستحالة وجود كذب بمعزل عن قصد أو رغبة أو إرادة واضحة للخداع، ويرى دريدا وفقا لذلك وجود علاقة بين الكذب والقصدية، ولاعتبارات بنيوية يبدو من المستحيل إثبات أن أحد ما قد كذب، إلا أنه من المتاح برهنة مجافاة قوله للحقيقة، ويعود دريدا مرة أخرى للقديس اوغسطين في كتابه في الكذب، في سياق تناوله لالنية الحسنة، والتي تناولها اوغسطين الذي يقترح التمييز بين الاعتقاد والاقتناع، فالكذب على الآخرين يتضمن الرغبة في خداعهم، حتى إذا كانت أقوالهم حقة، والخلاصة أن الناس يمكن أن تقول أقوالاً خاطئة دون أن يكونوا كاذبين، وأن يلجؤوا إلى أقوال حقة ولكن الهدف منها خداع الآخرين، وبالتالي يدخلون في زمرة الكاذبين. يهتم الكتاب بالسياسة كمجال خصب للكذب في سياق تناول الكتاب تاريخانية الكذب، ويستدعي دريدا هنا كتابات المفكرة السياسية حنة أرندت، والتي بذلت جهودا جبارة في الحقل السياسي وارتباطه بالكذب في ظل أفكار واستراتيجيات الأنظمة السياسية الشمولية، من خلال عملها كصحفية، خاصة في دراسة السياسة والحقيقة، فهي تقول إن من الممكن اعتبار اللجوء إلى الكذب إحدى الوسائل الضرورية والمشروعة، ليس فقط لكل من يمتهن السياسة أو يمارس الديماغوجية، بل وكذلك لممارسة الحكم، وقد وضعت آرندت عددا من الأسئلة المفتاحية المتعلقة بذلك الارتباط القوي بين السياسة وفعل الكذب إلى أن توجت كل ذلك المجهود البحثي بدراستها السياسة والحقيقة، والتي نشرت لأول مرة عام 1967م، وقد كانت تلك الدراسة ناجمة عن السجال الذي شهدته صفحات الجرائد بعد نشرها لمقالة ايشمان في المقدس. وكانت آرندت قد قامت بتغطية محاكمة مجرم الحرب النازي أدولف أيشمان، وقامت بإدانة مجموعة من الأكاذيب والادعاءات التي قيلت عنها من طرف الصحافة على وجه الخصوص، وفيما بعد نشرت مقالاً تحت عنوان السياسة والكذب: تأملات في وثائق البنتاغون، تلك الوثائق المتعلقة بالسياسة الأمريكية في فيتنام منذ الحرب العالمية الثانية إلى العام 1968، وكان كتاب آرندت قد استدعى ربط الكذب بعالم السياسة لما لآرندت من صولات وجولات في هذا المجال، ويأخذ الكتاب كثيرا من المقالات التي كتبتها عن السياسة والكذب، وفي ذلك المقال تلفت آرندت الانتباه، إلى أن تاريخ الكذب قد شهد تحولا يبدو جليا إذا كان على مستوى تاريخ الكذب كمفهوم، أو إذا كان على مستوى تاريخ مختلف الممارسات التي تشكل فعل الكذب، غير أن دريدا يضع سؤالا، كيف يمكن أن يكون للكذب تاريخ مستقل، في حين أن التاريخ، والتاريخ السياسي على وجه الخصوص، يزخر، كما يعلم الجميع، بالكذب؟، كيف يمكن أن يكون للكذب تاريخ جوهري ولصيق بخصائصه الداخلية، في حين أنه يعاش من خلال تجارب مشتركة، وبنيته تبدو بديهية والظروف المهيأة لنشوئه لا ترتبط بزمان ولا بمكان محددين؟ هذه الأسئلة يضعها دريدا في وجه مسعى آرندت التي تتحدث عن التضخم والتنامي المفرط للكذب في عالم السياسة، ويضع دريدا فكرة الكذب المطلق في موضع الشك، وذلك لأنها مازالت تفترض إمكانية وجود معرفة مطلقة يتضمنها العنصر المتمثل في الوعي الانعكاسي بالذات. ولئن دخل الكتاب في كثير من المقاربات حول الكذب لكثير من المفكرين والفلاسفة، إلا أن دريدا قد توقف كثيرا عند الفيلسوف كانط، ومقاربته للمفهوم، إلى جانب حنة آرندت ليتجاوز بعد قليل المقاربتين المتقابلتين عند كل من آرندت وكانط، فقد ألف كانط دراسة وجيزة ومكثفة ومعقدة عن الكذب، في عام 1797، حملت عنوان في ما يزعم عن الحق في الكذب لدوافع إنسانية، وهي التي قام كانط بتأليفها بعد مجادلة مع بنجمان كونستان الأديب والسياسي الفرنسي الذي يعتبر من أهمّ منظّري الليبراليّة في عهد الإصلاح، فضلا عن كونه من أشهر كتّاب الرواية التحليلية في بدايات القرن التاسع عشر، ويرى فيها دريدا واحدة بين الدراسات التي شهدها الغرب الأكثر راديكالية في تحليلها للكذب، والتي أقدمت بكل قوة على تحديده والتأمل فيه ومنعه والنهي عنه بصفة لا مشروطة، ويرى دريدا أن التعريف الكانطي للكذب أو للواجب بالتزام الصدق، يبدو قطعياً وإلزامياً، ولا مشروطاً.
مشاركة :