جاك دريدا متأملاً في تاريخ الكذب

  • 8/24/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

هل سأل أحدنا إذا كان للكذب تاريخ؟ متى بدأ؟ من أين؟ وإذا كان العثور على تاريخٍ لا كذب فيه مهمة شبه مستحيلة، فكيف لنا أن نقع على تاريخ حقيقي للكذب؟ هذه الأسئلة وغيرها قد نجد أجوبةً لها حين نطالع كتاب «تاريخ الكذب» لجاك دريدا (ترجمة وتقديم رشيد بازي، المركز الثقافي العربي)، وهو في الأصل محاضرة ألقاها الفيلسوف الفرنسي في «المعهد الدولي للفلسفة» في باريس عام 1997. ولا تعدو المحاضرة كونها صياغة مختصرة لبحوث ألقاها في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس خلال الموسم الجامعي 1994-1995، بعنوان «مسائل المسؤولية»، إضافة إلى دراسة وافية كرسها الفيلسوف الكبير لمفهوم الكذب. يتكئ دريدا في كثير من الأحيان على ماسبق أن قيل حول تيمة الكذب، فيستند إلى قول مونتاني: «لو كان للكذب - كما هو شأن الحقيقة - وجه واحد لكانت العلاقات بيننا أحسن ممّا عليه، فيكفي أن نحمل على محمل صدق نقيض ما ينطق به الكاذب منّا. إلا أنّ نقيض الحقيقة له مئة ألف وجه ولا يمكن الإلمام كلياً بالحقل الذي يشغله». على نحو سردي - أدبي، يقترح دريدا كل ما قيل في شأن الكذب. يبدأ بما قاله أرسطو: «الكذّاب ليس فقط من يملك القدرة على الكذب، بل هو الذي يميل إلى الكذب»، مروراً بما ذكره جان جاك روسو: «أن تكذب لمصلحة نفسك، فهذا مستحيل، وأن تكذب لمصلحة الغير، فهذا تدليس، وأن تكذب قصد إلحاق الأذى بالغير، فهذا افتراء، وهذا هو أسوأ أصناف الكذب. وأن تكذب من دون أن تقصد مصلحة أو إلحاق الأذى بك أو بغيرك فأنت لا تعتبر كاذباً، وما تقول ليس بكذب، بل مجرد تخيّل». يُناقش دريدا تلك الأقوال على نحو تأملي، معتمداً على مبدأ القياس، متبعاً في ذلك ما يسميه كانط «الحكم التأملي». يبدأ من الخاص ليصل إلى العام، ويؤكد أن هدفه هو التأمل لا التحديد، والتأمل على أساس الوصول إلى مبدأ ليس في وسع التجربة أن تمكننا من الحصول عليه. يمكن القارئ تتبّع الخيط الرابط لتحليلات دريدا - والتي يقدمها على أنها أطروحات تمهيدية ستمكّن من بلورة جينيالوجية تفكيكية لمفهوم الكذب - هو التساؤل حول إمكان تشكيل تاريخ خاص بالكذب من حيث هو كذلك. ثمة صعوبة لا يمكن تجاهلها، وهي تكمن في ضرورة التمييز بين تاريخ الكذب كمفهوم وتاريخه في حدّ ذاته، والذي يحيل على عوامل تاريخية وثقافية تساهم في بلورة الممارسات والأساليب والدوافع التي تتعلق بالكذب، والتي تختلف من حضارة إلى أخرى، بل وحتى داخل الحضارة الواحدة نفسها. خلال ذلك يصرّ ويذكر أن مايصل إليه هو أحكام تأملية، وليست أحكاماً تحديدية نهائية. تُشكّل النتائج التي يستخلصها دريدا من هذه الفرضية المحاور الرئيسة لتحليلاته. من جهة، هو يفترض وجود علاقة جوهرية بين «الكذب» و»القصدية»، ويذهب إلى أنّ من المستحيل البرهنة (بالمفهوم الضيق لهذه الكلمة)، بأن أحداً ما قد كذب، علماً أنّ بإمكاننا البرهنة على أنه لم يقُل الحقيقة. ومن جهة أخرى، يؤكد استحالة الكذب على الذات. فهل يمكن إنساناً أن يقول لذاته - وعن قصد - أشياء مختلفة عن تلك التي يفكر فيها فعلاً؟ أو أن يفعل ذلك بقصد أمور مختلفة عن تلك التي يفكر فيها فعلاً؟ بمعنى آخر، كيف يمكن الكذب على الذات من دون اعتبارها بمثابة آخر مستقل، يجب، كما يرى جان جاك روسو، الالتزام بواجب الصدق تجاهه؟. واهتمام دريدا بهذه النقطة الأخيرة يرجع أساساً إلى المكانة المحورية التي تحتلها في كتابات حنة أرندت، والتي تكتسب أهمية خاصة لدى الراغبين في دراسة الممارسات المرتبطة بالكذب، وذلك بحكم الاهتمام الذي أولته الفيلسوفة الألمانية للعلاقة الخطيرة التي تربط الحقل السياسي بالكذب، لدى الاتجاهات الفلسفية الرسمية للأنظمة الشمولية. من هنا يجب دراسة كتاب «كفاحي» لهتلر، لأنه يتضمن نظرية في الكذب، وأن قرّاء هذا الكتاب لم يفهموا بأن الحديث يدور لهم وعنهم. وممّا لا جدال فيه، أنّ دراسة «كفاحي» اليوم باتت ضرورة أكثر مما مضى، ليس فقط لأن الكتاب يتضمن أكاذيب، بل لأنه يسعى أيضاً، وبوضوح، إلى تقديم نظرية للكذب، وبخاصة من خلال ما يسميه هتلر: «الكذب الضخم». بل إنّ قيمتها تبقى عالقة على المستوى الذي تصل إليه في تطابقها مع روح العرق والأمة والطبقة، أي المنافع التي يمكن لها تقديمها من الناحية العرقية أو الوطنية أو الاجتماعية. وسعياً من فلسفة الأنظمة الشمولية الرسمية لاقتباس النظريات البيولوجية والذرائعية والفاعلية المرتبطة بالحقيقة. من هنا انطلق دريدا من سؤال واقعي: كيف يمكن الكذب أن يكون له تاريخ مستقل إذا كان التاريخ، والتاريخ السياسي على وجه الخصوص، يعجّ بالكذب؟. وفي النهاية، يخلص دريدا إلى أنه لن يكون بإمكاننا البرهنة على وجود تاريخ خاص بالكذب، بالكذب من حيث هو كذلك. ولا يمكن هذا التاريخ أن يتحول إلى موضوع نظري، بإمكان المعرفة الإلمام به. مما لاشك فيه أنه يستدعي المعرفة، أقصى ما يمكن من المعرفة، إلا أنه يبقى بنيوياً مغايراً لها. ومن ثمة، فكلّ ما يمكن الحديث عنه هو الشكل الذي قد يتخذه تاريخ الكذب، هذا في حال كان وجوده ممكناً.

مشاركة :