بيروت: سوسن الأبطح مغامرة لذيذة خاضتها «مهرجانات بيبلوس» يوم أول من أمس، مع عرض «أوبرا مجنونة» الذي أخرج هذا الفن الغربي الكلاسيكي الصارم من قوالبه المعتادة، تقريبا له لأذواق الناس. خلط بين الغناء العربي والإيطالي والإنجليزي، وصولا إلى الموسيقى الأرجنتينية، انتقاء لأجمل أغنيات الأوبرا الغربية التي يعرفها الجمهور، موسيقى كلاسيكية أوروبية جميلة يتخللها التخت الشرقي، إنشاد لجوقة «الجامعة الأنطونية» ورقص ومشهديات مسرحية مدروسة بعناية مع إضاءة متقنة. عرض تجريبي بامتياز، بإمكانات صغيرة، ورغبة كبيرة في الوصول إلى رهافة عالية، بقيادة المخرج والكوريغراف الموهوب جان صقر. على يمين المسرح جلست الأوركسترا اللبنانية مع الأوركسترا الشرقية لتعزف بقيادة الأب توفيق معتوق «لا فيتا ايه بيلا». لم تتأخر السوبرانو اللبنانية سمر سلامة بالوصول إلى الخشبة، التي بدا ديكورها بسيطا، يعتمد بعض الأعمدة القديمة ودرجان أحدهما توسط المسرح والآخر على جانبه الأيسر مع بعض الكرات البيضاء الكبيرة التي أضافت رونقا خاصا. اللونان الأبيض والأسود هما الطاغيان. سمعنا «ريناسيرو» من سمر سلامة، قبل أن يطل مفاجأة الحفل الممثل والمقلد الشهير طوني أبو جودة. أحد لم يسمع من قبل هذا الفنان المعروف جدا يغني على مسرح. هذه الإطلالة الجريئة تحسب له. أدى بجمالية عالية، مع سلامة «دويتو القطط الضاحكة» للشهير روسيني. صوت القطط مغنى أوبراليا من هذين الفنانين، مع عرض للراقصين على طريقة القطط الشقية، كان ممتعا ومسليا، لجمهور جاء يكتشف فحوى الجنون الذي دعت إليه مهرجانات بيبلوس. إحدى أجمل لحظات الحفل، هي التي جمعت عازف العود المعروف زياد سحاب مع عازف البيانو مارك أبو نعوم، حوار عذب وتناغمي بين آلتين آتيتين من ثقافتين مختلفتين، تخللته آهات أوبرالية من سمر سلامة، التي خرجت بعد ذلك من وراء إطار توسط المسرح وأغلق بغلالة، كانت تغني من ورائها. تمزق سلامة هذه الغلالة وتجتاز الإطار باتجاهنا وهي تغني «ألباما». مع «ليبرتانغو» لبيازولا، يخبر المتفرج جمالية الرقص وبراعة المؤدين، الذي يخلطون بين رسم اللوحات، والغناء، في وقت واحد. جان صقر مصمم الرقصات، ومدير الإضاءة، له فضل عارم في إنجاح هذا العرض الذي بدت مشهدياته بديعة في الجزء الثاني خاصة، عندما تصبح الأضواء هي لعبة أساسية لتحريك المسرح. اللعب على الظلال، إبراز راقص وإخفاء آخر، بلمح البرق، تلوين اللوحات، يجعل الفرجة شيقة. من قلب هذا الريبرتوار العالمي لكبار موسيقيي الأوبرا المختلط بأغنيات لأفلام وغيرها حديثة، تخرج أغنية أسمهان «يا حبيبي تعال الحقني وشوف إل جرالي». سمر سلامة، خلف الإطار الذي مزقت غلالته قبل قليل، تمسك بسماعة هاتف قديم وضع على طاولة صغيره، وتنادي حبيبها، وهي تلبس عباءة شرقية. هذه الأغنية الشهيرة تؤدى في «الأوبرا المجنونة» بطريقة مختلفة، والفنانة التي كانت تغير ملابسها مع كل أغنية، لم تفعل ذلك من باب الترف المجاني، كما يحدث غالبا، وإنما لإغناء المشهديات المسرحية التي ترافق الأداء الغنائي. فالأغنية العربية يليق بها غير ما تتطلبه أغنية «دا تيمبيستا» للرائع هندل، لذا فالفنانة سرعان ما تتخلص من عباءتها، وتظهر بفستان مذهب، يسعفها الراقصون بإضافة ذيل له لتبدو كأميرة هائمة. من الأغنيات المحببة للجمهور بطبيعة الحال «تونيت» أدتها سلامة مع طوني أبو جودة، ممسرحة وجميلة، بعد أن وضع بول خليفة لمساته عليها. أمام الأوركسترا ظهرت طاولة ضخمة بشمعدانين كبيرين، طوني أبو جودة على رأس الطاولة وسلامة على الرأس الآخر. حبيبان يتناغيان، يتراقصان. تتوالى الأغنيات مع سينوغرافيا تستحق الفرجة، فالمخرج كان قادرا على توظيف أدواته ببراعة. مرة تستخدم الطاولة الكبيرة الممتدة أمام العازفين لتصبح مائدة يصطف حولها الراقصون، ويؤدون لوحة جديدة، ومرة أخرى تصعد عليها الفنانة سلامة، لتحولها إلى مسرح مرتفع يعلو بها صوب السماء، ومرة غيرها تصير مكانا للجلوس والتربع والغناء. مع مقطوعة «زومبي» الجميلة، التي عشقتها سمر سلامة منذ الصغر حد التخصص في الموسيقى، تتجدد الأفكار وملابس المنشدين والراقصين الذين يختلطون ويغنون معا. ثلاث فتيات يؤدين هذه الأغنية الجميلة، ويحطن بسلامة، قبل أن يلحق بهن الكورس. في هذا الحفل الذي تم الاشتغال من اجله، على توزيع الموسيقى، وإعطاء لمسات خاصة لكثير من الأغنيات، تعود اللغة العربية في نهاية السهرة وتحديدا مع زياد الرحباني، وأغنية «قديش كان في ناس» التي طبقت شهرتها الأفاق، بعد أن أدتها فيروز على المسرح وهي تحمل شمسيتها. الشماسي، كانت جزءا من العرض الذي رافق الأغنية، قبل أن تنتهي هذه الأمسية الرقيقة، التي تضافرت فيها جهود كبيرة ومخلصة، من أجل عمل لبناني تجريبي فريد، ليس لأنه أجمل ما قدم في المهرجانات، وإنما لجرأته على المحاولة، وصدقه في الاجتهاد، في سبيل تقديم جديد ومختلف. تسجل للمهرجانات اللبنانية، التي بدت شديدة التغريب العام الماضي، لا سيما بيبلوس بشكل خاص، أنها عادت لاستقبال المواهب المحلية، والإقدام على التجريب والابتكار. سبق لسمر سلامة أن وقفت في مهرجانات بيبلوس منذ سنتين لتقدم أوبرا «زواج فيغارو» بكل كلاسيكيتها وتقليديتها، لكنها هذه المرة جاءت بأسلوب جديد، وبإخراج خاص. ويسجل لـ«مهرجانات بيبلوس» أن تحاول، تفشل أو تنجح لكنها أقدمت بشجاعة. على نفس المنوال نسجت «مهرجانات بيت الدين» التي استقبلت في حفلها الافتتاحي، عرض «على طريق الحرير» الذي بنى تصوره على خلط فني بين فنانين من عدة دول آسيوية، بمشاركة من الفنان رفيق علي أحمد، لنرى كم أن هذا الشرق، وحتى أقصاه في الصين، متشابه في شجنه، وآهاته ومواويله وإن اختلفت الآلات وتنوعت اللغات. يبقى لمهرجانات بيبلوس حفل واحد لتختتم موسمها هذا العام، حيث ستستقبل فرقة «سكوربيونز» العالمية الشهيرة للمرة الثانية، بعد أن قدمت في المرة الأولى حفلا مشهودا، طلب على أثره أعضاء الفرقة العودة إلى بيبلوس. أما هذه المرة فستكون فرصة لمن فاتهم الحفل السابق، خاصة الشباب الذين يعتقد بعضهم أن «سكوربيونز» هي من الفرق التي لا تفوت.
مشاركة :