هل يتخيل أحدنا أن يستيقظ صباحاً ويقاوم الرغبة في الاستمرار بالنوم، فيباغته صخب الدنيا من خلال جهاز الراديو الذي قصده ليعينه على إدراك صباح جميل ودقائق موسيقية ناعمة تأخذه تدريجياً إلى عالم الواقع بكل ما فيه من اختلاف وتناقض. منذ زمن، انشغل جمهور الإعلام بالمرئي عن المسموع، واستطاعت قنوات التلفزيون أن تجذب الناس من خلال سحر الصورة أو حتى قسوتها ومرارتها، لكن الإذاعات انتبهت وقررت تجديد هويتها الفنية، وربما المهنية أيضاً، ولم تعد تلتزم بالقواعد التي وضعها آباؤها المهنيون الكبار. وفي التاريخ المكتوب عن الإذاعة المصرية، أنها أنشئت عام 1934 كجهاز إعلامي وطني يتبع الدولة وتديره الحكومة بعدما أصبحت الإذاعات الأهلية عبئاً لا ميزة، وبعدما دخلت هذه الإذاعات في حروب بينها وبين بعضها على اجتذاب المستمع في شكل هبط بها إلى أدنى مستوى. إنشاء «الراديو العام» تبعه إلغاء هذه الإذاعات الأهلية أو الخاصة بلغة أيامنا هذه، واستمر الوضع هكذا حتى سنوات عشر ماضية عادت فيها الإذاعات الخاصة إلى الأثير. وبدلاً من أن يحتفظ الراديو العام بقوته ويصبح أفضل، مسلحاً بخبرات إذاعيين خبراء مهرة، تراجع وضعفت موجاته مع استمرار جودة المحتوى في إذاعات أخرى. غير أن القضية هنا لم تعد جودة محتوى الإذاعات القديمة وإنما خفوتها، وصعود الإذاعات الخاصة بقوة الحنجرة والصوت العالي والصخب وأيضاً استخدام كل الوسائل لجذب شرائح جديدة من المستمعين سواء الشباب المرابطين أمام الإنترنت أو القابعين في سياراتهم يعانون في أوقات الزحام. وبدلاً من أن تضع الإذاعات الجديدة صحة هؤلاء وأولئك النفسية في أجندتها، فإنها تطرح عليهم حوارات بلا هدف إلا اصطياد القلق الكامن لدى الإنسان في إطار أوضاع اجتماعية وحياتية وتحولات صعبة، من هنا أصبحت «فورمة» العمل في هذه الإذاعات الخاصة، تعتمد على ثرثرة مذيعة مع مستمعيها بأسلوب يتعدى أحياناً اللياقة الضرورية للحوار الإذاعي إلى الدخول في هوامش ممنوعة عبر جهاز عام، وغير الثرثرة التي يتشارك فيها مذيع ومذيعة في أحيان كثيرة، هناك الاختيارات الغنائية والموسيقية غير المألوفة والرديئة أحياناً في أوقات الصباح أو المساء، وللدرجة التي تخالف رغبة البشر وذائقتهم وهم يبدأون اليوم أو ينهونه. وهناك ما هو أهم، وهو سيل الإعلانات الجرار، عالي الصوت، والمعتمد على مقاطع تمثيلية غالباً تتداخل ما بين فواصل البرنامج لتكمل الصورة العامة، وملخصها هو ضجيج أقله موسيقي وأعلاه صخب صوتي... ومن هنا، كانت دهشة أحد المستمعين كبيرة وهو يصحو من نومه مضطراً راجياً أن يجد في الراديو ما يبعد عنه مشاهد القتل والتفجير والدماء التي تغزو الشاشات العربية، فإذا بالإذاعة الخاصة تعاجله بصوت قوي صارخ: «لو عندك قلب... لو قدرت تحب...»، مصحوباً بموسيقى على دقات طبول بدت كأنها طبول الحرب.
مشاركة :