شك في أن الحادث الأليم الذي وقع في إسطنبول، والذي استقبل به العالم العام الجديد، ترك أثرا كبيرا في وجدان الناس، لا سيما من تضرروا منه بشكل مباشر سواء من الناجين أو من أسر الضحايا، أو من أولئك الذين تضرروا ماديا ومعنويا في زمن عصيب سياسيا واقتصاديا. فالحزن على الضحايا الشباب، الذين فقدوا حياتهم ضمن مسلسل الموت المجاني الذي يجتاح شرقنا الأوسط الحزين منذ بضع سنين، لا ينتهي، خاصة أن كثيرا منهم من بلادنا، بل ومن مدينتنا العزيزة جدة. عرفت مؤخرا أن إحدى الضحايا كانت خريجة القسم نفسه الذي درست فيه، والجامعة التي تخرجت فيها وأعمل فيها حاليا، وهي تصغرني بدفعتين فقط، مما يعني أننا كنا نرتاد المبنى نفسه معا لثلاث سنوات على الأقل، وكانت -رحمها الله- زميلة لبعض صديقاتي ومعارفي. أمر لم نتعود عليه، أن يكون ضحايا العمليات الإرهابية قريبين منا على هذا النحو. فنحن نعيش -بحمد الله- في دولة آمنة مستقرة، ولم نشعر بهذا الفقد حتى في أوج الحروب التي دخلتها بلادنا مضطرة أو وقعت على مرمى حجر منها. لعل هذا السبب جعلنا أكثر تأثرا بالحادثة من غيرها، فوجدت نفسي أبكي ليلا على ضحايا لم أعرفهم يوما أو أقابلهم في حياتي. لكن لاحقا سيتعاظم حزني الممزوج بالغضب، ليس على وفاتهم -فذلك أجلهم- وإنما على ما بدر من بعض من ينتسبون زورا إلى الإسلام والمسلمين تجاه أولئك الذين ما عادوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم. تعودنا في أي عمل إرهابي أن يصبّ الناس جل غضبهم على المجرمين، وأن يترحموا على الضحايا المساكين، خاصة إن كان بينهم عرب ومسلمون، وعلى أن يلعنوا الإرهاب والإرهابيين، إلا أن حادثة رينا في إسطنبول جاءت بشيء جديد. فنظرا لأن الحادثة وقعت في مكان يصنفه البعض ملهى والبعض الآخر مطعما، ولأنها أتت ضمن احتفالات رأس السنة الميلادية الجديدة، فهنا صار الضحايا مسؤولين عن موتهم، أو بالأصح صاروا مستحقين لهذه العقوبة الإلهية، وإن نفذتها يد الشيطان! فبدلا من الأحاديث التي تبين حرمة دم المسلم، لا سيما والقتل غيلة، تحولنا إلى الحديث عن سوء الخاتمة، وأهمية التوبة والرجوع إلى الله تعالى. البعض كان أهون من غيره في انتقاد سلوك الضحايا، فجاء انتقاده مبطنا (يا الله إنك تحسن خاتمتنا!)، والبعض الآخر جاء كلامه فظّا وقحا، فيه قذف وتعريض دون وجه حق ودون علم، ضد من لم يعد قادرا على الدفاع عن نفسه، لأنه أفضى إلى ما قدم، وتلك درجة رفيعة من الوضاعة. فحتى لو افترضنا جدلا أننا نتحدث عن أشخاص مسيئين، فإن ذكرهم بالسوء بعد موتهم يتنافى مع تعاليم الإسلام، تلك التعاليم التي جعلت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى المسلمين في المدينة عن سب أبي جهل وهو من رموز الكفر، احتراما لمشاعر ابنه عكرمة الذي سيقبل مؤمنا مهاجرا، فكيف بشتم الموتى من المسلمين الموحدين؟ ألم يفكر هذا الذي ينشر كلامه القبيح على وسائل التواصل الاجتماعي، في أن للضحايا أهلا بقلوب محروقة على فلذات أكبادهم، وأن هذا الكلام يزيد الحرقة واللوعة؟ هؤلاء الشامتون المستنكرون مستعدون للترحم على القتلة والمجرمين والديكتاتوريين، ممن ارتكبوا جرائم كبرى، باعتبار أنهم تابوا، أو رزقوا نطق الشهادتين ساعة الموت، لكن تلك الرحمة تختفي عندما يكون الميت شابة جميلة، تتناول طعام العشاء ليلة رأس السنة في إسطنبول على أضواء الألعاب النارية، واغتالتها رصاصة مجرمة. شعرت بحزن خاص وتعاطف كبير مع والد المرحومة شهد سمان، وهو يجد نفسه مضطرا إلى أن يخرج من شرنقة حزنه، ليجري المقابلات الصحفية هنا وهناك، ويكتب التغريدات، ليدافع عن عرض ابنته، ويبرر سبب وجودها في إسطنبول في تلك الليلة الحزينة. مع أن سبب وجودها لا يعني أحدا سواها وسوى أهلها، ولها ربّ يحاسبها. كثير من الجهلاء لا يدركون أن عيد رأس السنة ليس عيدا مسيحيا، وأن كثيرا من الأشخاص إنما يحضرون احتفالاته لمشاهدة عروض الألعاب النارية والتقاط الصور التذكارية. قد لا يكون هذا الأمر مما يناسبنا نحن، فشخصيا لا أحتفل برأس السنة الميلادية، ولم أحضر خلال سنوات حياتي الطويلة في الخارج احتفالاتها، لكن هذه قناعاتي الشخصية، وليس لزاما عليّ فرضها على الآخرين، أو النظر إليهم بدونية لأنهم يمارسونها. كذلك الأمور ليست دائما كما تبدو، أمرٌ تعلمناه من القرآن الكريم في قصة الخضر وموسى عليهما السلام، فكل فعل كان يستنكره كليم الله لأنه ظاهريا يبدو شرا محضا، إلا أن في باطنه خيرا كثيرا. قد يموت شخص في مكان ظاهره الفساد ميتة سوية ويرزق الشهادة، وقد يموت آخر في المسجد الحرام ويخلد في النار، لجرم ارتكبه قبل أو ساعة موته، فالعبرة بالنيات والنيات لا يعلمها إلا الله تعالى. حقيقةً، أستغرب سكوت بعض الدعاة عن مثل هذه الممارسات التي توزع صكوك الغفران، وتصدر الأحكام بالجنة والنار، وكأن لديهم اطّلاعا على علم الغيب! نعاني في المملكة منذ أمد طويل من أولئك الذين يتحكمون في حياتنا، ويفرضون علينا قناعاتهم، ويخبروننا بكيف نعيش حياتنا: كيف وأين يجب أن ندرس ونعمل ونتنقل ونفرح ونحزن ونحتفل ونتزوج، وقد صادروا منا كل فرح حتى صارت بلادنا طاردة في الإجازات، ومدننا خاوية أوقات الأعياد والمناسبات، وصرنا نتوسل فرحة يتيمة في كل بلدان الدنيا إلا بلادنا. اليوم، انتقلوا إلى مرحلة متقدمة، وهي التحكم في الطريقة التي يجب أن نموت بها بحيث نكون مستحقين لاحترامهم، وبالتالي لدعواتهم لنا بالرحمة والمغفرة، وليسلم عرضنا منهم بما أننا سندخل في قائمة من ينبغي أن يسكت عن سيئاتهم وتُذكر محاسنهم، أما إن حدنا عن ذلك ومتنا ميتة لم تعجبهم فلا نلومن إلا أنفسنا! الأكثر ازعاجاً في كل هذا الموضوع، أن كل ذلك الاستنكار إنما يتم باسم الإسلام والغيرة عليه، وهذا الدين العظيم بريء من كل هذا القيء، فهو الذي علمنا فضليه عظيمة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت. ليتهم صمتوا! مرام مكاوي الوطن
مشاركة :