هل يحتاج الشعر إلى تفرغ؟!.. قد يبدو السؤال غريبا.. لكنه ليس كذلك مع رجل أخذ نفسه على الجدية في كل الأمور، ووزع برامج حياته حسب الأولويات، ليجد حياته مليئة بأمور أكثر أهمية من الشعر.. فكيف إذا كان من أتحدث عنه رجل قضى جلَّ عمره في سلك العسكرية متقلبا في العديد من قطاعاتها، حتى إذا خلع بدلته وألقى قبعته وجد مجلس الشورى يفتح له ذراعيه لثلاث دورات متتاليات.. وما إن غادر قبة المجلس حتى وجد الشعر يمثُل أمامه وكأنه يقول له: كفى هجرانا أيها الشاعر! ذلكم هو الأديب اللواء المتقاعد عبد القادر بن عبد الحي كمال.. قرأت له ديوانيه رحيل الشموس 2013 وعكاظيات 2016 الذي خصصه في التغني بمدينته التي ترعرع فيها (الطائف).. وأمامي الآن ديوانه الأخير (معزوفة الريح) الذي شرفني بإهدائي إياه.. أصدق ما يوصف به هذا الديوان أنه عزف بالكلمات كما وصفه شاعرنا حين كتب على غلاف ديوانه (عزف) بدلا من (شعر)!. يتألف هذا الديوان من أربع وتسعين صفحة، ويضم أربع عشرة قصيدة على أربعة بحور هي المتقارب والخفيف والبسيط والكامل، وقصيدة واحدة على مجزوء الرجز. تتضح في قصائد الشاعر عبد القادر عذوبة متناهية ولغة سهلة رقيقة لكنها تمتزج بألفاظ تراثية معجمية، لولا أنه تداركها بشرح في حواشي صفحات الديوان لظلت مستغلقة على فهم كثير من غير اللغويين. وهو لا يتعمد الغوص وراء هذه الألفاظ بل إنها تبرز فجأة من خلال ثروته اللغوية التي اكتسبها بحكم نشأته في وسط مفعم بالثقافة والأدب؛ في بيت الأديب الراحل محمد سعيد كمال صاحب مكتبة المعارف بالطائف أشهر مكتبات المملكة؛ بل والعالم العربي. يفتتح الديوان بقصيدة بعنوان (قوافي الشعر) يذكر فيها غياب القوافي: غابتْ قوافي الشعر عن أُفُقي وبنــى الظــلامُ بخــافقي حُجُبا ذاك الشعاعُ خَبا ولست أرى ومضَ الحنين على الشــفاه حَبا ويعزو أسباب هذا الغياب إلى تكاثر الهم وانصراف الحب: ورأيتنــي والهــمُّ يعصــرني والحــزنُ صــيَّر خاطري شُعَبا الحــب كان ينيــرُ قافلتـي فانســلَّ من أعطـانه هـربا حتى إذا ما حان ختام القصيدة صرّح بحاجة القلب للعاطفة، والنفس للملهِمة، ودعا ربه أن يرد لخافقه الأمل: القلب في شوق لعاطفة تستلُّ من نبضاته العطبا والنفس في توق لملهمة توحي لها الإلهامَ والطربا يا رب رد لخافقي أملا وامدد عليه من الرجا سببا ويتجلى في الديوان انعكاس ما جُبل عليه شاعرنا من كريم الخلق، فحين أراد أن يوجه النظر لبعض الصفات الذميمة في بعض البشر لم يعمد إلى الإنسان ليذمه؛ بل توجَّه للسلوك نفسه كما يتبدى ذلك في قصيدتي (الثعلب المتسلق) و(رسالة إلى متجانف). وتستوقفنا قصيدة (صغير النُّهى) التي صاغها على لسان زوجةٍ أساء زوجُها معاملتها حتى اضطرت لتركه، يقول في مطلع القصيدة: تقول وقد ساءها قوله وردَّةُ فِعلٍ له جــافيه وما كان في رده كيِّسا وما كان ذا همة عاليه أيتركني بعدما احتجته وكنــت لوقفته راجــيه وقد كنت في حقه بَرَّة وكنــت له طــعمة شافيه وبعد أن يمضي معددا ما قدمت الزوجة من تضحيات يبين وجهة نظرها بعد أن تركته: فلا عيش في ظل فكر سقيم ولا عيش في بيئة خاويه ومن تتزوج صغير النهى تعــش أبدا عيشة الجاريه ومن قصائده التي تنضح بحسن الخلق قصيدته التي عنونها بـ(أخلاقنا) وفيها يذكِّر حليلته بعفَّتِه، حتى وإن تغزَّل في بعض أشعاره: لا يغرَّنْك يا جميل المحيا إن تسهلتُ في الرضا كل مصعبْ أو تغزلتُ في عذوبة ثغر وشـتيتٍ ظلمٍ وغربٍ وأشنب فلقد صنت يا حبيبة نفسي وتعففت عن لميس وزينـب وترفعت عن حرام ورجس وتأبيت مجحر الحسل والضب ومن الخلق الكريم إسداء الفضل لأهله، والثناء على من يستحق الثناء رجالا وبلادا، كما في قصيدته (معزوفة الريح) وهي التي اختارها ليسمي بها ديوانه، وقد وجهها لصديقه أبي يزن الدكتور إبراهيم التركي، فأثنى عليه وعلى أهل بلدته (عنيزة) بما هم أهله: من معجــب شــده حلو التباريح إلى رفيع الذرى من منبت الشيح إلى أبي يـَـزِنٍ تهـوي أعنتـه ليسـتقي منه أنغــام التواشـــيح ولم يخلُ الديوان من قصائد وطنية وقصائد عروبية، فقد آلمه ما آلت إليه مصر بعد ثورة الربيع العربي فمن قصيدته (ربيع العرب): كِنانتـُــنا لم تعد مثلما عهـدنا بها حقبا عن حقبْ فلا الحقد يصنع أمجادها ولا الحرص في عاصفات الخطب يؤجج إعلامهم نارها ويسكب زيتا مع من ســكب وحين يتأسى على ما آلت إليه بلاد الشام يصوغ قصيدته (سنرجع يوما) بقدر كبير من التفاؤل بأن يعود للشام بهاؤها وابتسامتها رغم ما لاقت من المآسي والمحن: سـنرجع مهمــــا عتا ظــالم وحطم بالعنف أســوارنا ومهـما اســـتبد عُتُلٌّ زنيــم وشــــرد بالرعب أطفالنا ومهما رمى من جحيم اللهيب وأزهق بالنـــار أرواحــنا إلى أن يقول: وتأتي الملائك في زَفَّةٍ وتغمر بالطــهر أفراحنا تعيد إلى الشام إشراقه وتفرش بالورد أعراسنا تدق الكنائسُ في غبطة وتتلــو المسـاجد قرآنـنا وختاما لا بد من الإشارة إلى أن للشاعر عبد القادر أسلوبا نثريا مميزا يظهر فيه تمكنه اللغوي وتأثره بقراءاته التراثية، فيمتزج اللفظ المعاصر مع المفردة التراثية، ويختلط الأسلوب المرسل مع المسجوع، وكأنك تقرأ لأبي عمرو الجاحظ، وقد استهل بعض قصائد الديوان بقطع نثرية لا تقل شاعرية عن القصائد ذاتها. أقتبس هذه الفقرة من مقدمة قصيدته (إلى متجانف) لتكون مسك الختام: «والنبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم كان أخشى ما يخشاه على أمته إقبال الدنيا عليهم فهاهي قد أقبلت بإغراءاتها الخادعة، وبهرجتها الفاقعة، تدفق الخير وانهال العطاء فتدافع المتدافعون كلٌّ يملأ عيْبته ويحوز بغْيتَه، فاصطخب المخاصمون، ولجَّ المتشاكون، وتباعد الأقربون إلا من رحم ربي». - سعد عبد الله الغريبي
مشاركة :