حياة موحشة ومتوحشة

  • 1/16/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

صداع رهيب شكَّل في رأسه هزةً ريختريةً، اجتاحه بعد أن دلف إلى البيت في ساعة متأخرة، ملوثة بدم الليل بعد أن اغتالته سكاكين شمس النهار. كان الأجدر به أن يعود باكراً ليلة أمس، لكن حلاوة النبيذ سرقت منه عقله، وجعلت عقارب الساعة تتوقف عن الحركة في مخيلته، فلم يخرج من حانة الهشاشة تلك، الغاصّة بالعاطلين وبالمتقاعدين، وبأناس موقوفة حيواتهم عن التنفيذ بحكم قدري لعين. حانة المغضوب عليهم والغاضبين على كل شيء؛ مثقفون وجهلة، شِيب من بقايا زمن النضال من أجل الحياة، وشباب ممن قذفهم حازوق الحياة خارج مدارات جاذبيتها، أجساد منهَكة وأرواح منتهَكة، تبتلتْ في هيكل الخمار هذا، تمارس عبادة الشرب والتدخين، وتهب من جراب عمرها ساعات الحياة قرباناً لموت بطيء. تحسس حلْقه إثر ألم أحسّه غامضاً كألف لام ميم، قبل أن يطفئ السيجارة التي نسيها بين أصابعه بعنف في منفضة موضوعة جنبه على طاولة الصالة. أطفأ المذياع المركون في أقصاها، الذي كانت سيدة لحظات الفرح والألم، فيروز التيه والهبل، تصدح من مكبراته، تطلب من المجهول إعطاءها الناي للغناء؛ بحثاً عن سر الوجود. لحْظتَها، ساد الهدوء والصمت جنبات البيت البارد كالمدافن، واستنكح التفكير عمق رأسه، فسافر إلى عوالم الماضي السحيقة، يجتر الذكريات التي غطاها غبار السنين وعواصف الزمن.. دوَّت كقنابل صاعقة مجنونة في قلبه الأعشى، أسئلة كثيرة مشبوبة بالخوف مما هو قادم، فأحس أنه يتناص في تفكيره مع شاعر عدمي، يرقص على نغمات القوافي والأفكار رقصة "التانغو"؛ إذ يتقدم خطوة نحو "ما يريد أن يكون"، ليعود القهقرى خطوتين إلى ما "يجب أن يكون".. يتصور لحظة أن الحظ عالم مُعادٍ لعالمه، وأخرى يتراءى له أن هذا الرأي ما هو إلا نوع من المفارقة الحيواتية، ويفضل رؤية وجه القدر الذي لا يرحم الحياة، ويتمنى أن يتحسس وجهه قبل أن يأخذ قُبلة الوداع من شفاه الموت الشاحبة. سأل نفسه: مالك وهذه اللغة البائسة والمتشائمة! أجاب نفسه لينهي الموضوع سريعاً قبل أن يتطور: إنها ليست لغتي، إنها لغة الحياة الموحشة والمتوحشة. حين يستنكحك العبث بلا هوادة، ويدب فيك الوهن حد العظم، لحْظتها توقن حد الاغتمام بأن لا شيء في الحياة يشي بالحياة ولو من وراء حجاب. مضغت كل أشيائي مرة واحدة، وخانني البلع. سأبصق ما بين أسناني بكراهية اليمين للأجانب، وسأشعل نار نيرون الحاقدة في جسمي الطفولي المترهل، ولن أكون إبراهيم المتدثر بالبرد والسلام، ولتطفئوا اللهيب الرهيب، آتوني بخمرة ابن الفارض وعصا موسى، وحطِّموا صخرة قلبي الذي تكلَّس فيه الدم المغسول بدم. فأنا المضغة المتعفنة في جسد الأسرة النبيلة، قذى عيونها النجلاء، وعوار بؤبؤها الفتَّان، ودنَس أثوابها البيضاء الناصعة. الألم يغير الناس ببديهية الأقدار الساخرة، لكني أحسه سيمسخني إلى "دراكولا"، متعطش إلى الدماء التي غسلت يدي بها منها. "عاهرة رخيصة" هذه الحياة، تمرست في حانات الألم فخبرت سقاية العيون السهاد، والمآقي الدموع المالحة، لا تكون السعادة فيها سعادة إلا حين تشترك، ولا يتسلطن فيها الألم إلا احتل من المرء فيه كل الزوايا. لوهلة، تبددت الدنيا في عينيه، بكامل ثقلها، وصار العالَم بجبروته وضوضاء لهْثه الصاخب؛ خواء من معنى، بدا له كل هذا في صورة اللاشيء. إذ كانت الحياة التي يريدها هناك في ذياك الزمن السحيق عمق الماضي، يوم تركها مرغَماً دون أن ينظر إليها نظرة الوداع، وهو يمتطي صهوة العمر بعنفوان الإنسان الباحث عن الإنسان. اليوم، تسللت حياته كالماء من فروج أصابع يده "السادية"، التي تتلذذ باغتصاب الماء لها بهمجية متناهية، لتمسكه مرة أخرى كعاهرة أدمنت الجنس، ويعيد فض فروجها غير مبالٍ، كما تتلذذ الحياة باغتصابه من قُبل ودُبر. تذكَّر أن الألم والحزن إخوة الإنسان من يوم نزل به آدم وحواء من شاهق الجنان إلى حضيض الأرض. غاب في غابات التفكير، ودخل في حوار التمتمة مع شيطانه، الذي أغرقه في ضباب تلك الغابات، كأبيه آدم وأمه حواء، لحظة رمى بهما الله بجبروته إلى قفار العراء وفيافي الخلاء. أحس الألم الأبوي ذاته ينخر فيه، ورأى كيف كان الله جباراً لحظتها ولم يكن غفاراً. أَشعل سيجارة يتيمة كانت في جيبه تتلوَّى بالوحدة، ونفَث دخانها في الفضاء، ومعه كل شعور العذابات الذي أبى أن يرافق الدخان نحو هوة العدم، تمتم بآيات بينات من القرآن قبل أن يستغفر الله عما جاء به تفكيره، وتبرأ من شيطانه الذي راوده عن نفسه في غفلة من حراس النوايا، الذين لو سمعوه يهرطق بمثل هذا الكلام، لشربوا من دمه؛ زلفى إلى الواحد القهار، وعلَّقوه على مداخل المدينة عبرة. وقف لحظة.. وأخذ يرتب المسافات التي تبعثرت فيه.. أين أنا الآن؟ ماذا فعلت مِن جرم، يا الله، كي أُعاقب بكل هذا الألم الجهنمي؟ وماذا أنت فاعل بي؟ لحْظتها، وبلا سابق إنذار، تذكَّر رفيق عمره، الذي يقارع المنافي الباردة فاتحاً صدره لقساوتها بغباء بوهيمي، وكيف تركته حبيبته حين علمت أنه ملحد، وكيف استفاق في خلدها إله الوازع الديني، وأوقد جذوة الإيمان المانع لخطيئة حبهما، الذي ولد في مدينة موصدة القلب، تضم إلى صدرها الأشياء الثمينة بحُنو، قبل أن ترميها بحقارة في مزابل الأحياء التي تفتقر إلى أكياس قمامة تستر عفنها، مدينة غضب الله عليها وتركها وحدها، تزحف على قفاها نحو حتفها المحتوم. لقد ضُبط بالجرم المشهود، وهو ينزع خمار قلبها الأسود عنها، قبل أن يعرِّي عورته لمنابع نور الحب، ضُبط ورُمي في حفرةِ جفاء مظلمة، ملأ غبارها قلبه المتعب حد الوهن. ساعتها وقبل أن يغطَّ في نوم عميق، تفطَّن إلى أن ما بحلقه ليس ألماً غريباً ولا يحزنون؛ بل هو "الغثيان"؛ يأكل تفاصيلهم الرائعة، ويقتات منها ليبشم. إنها ليست حياة؛ بل هي عملية تدخين مدمر، يتنفسون روائح الموت وتنفثهم الحياة في تآكل مستمر لأرواحهم المترهلة لِم كل هذا؟! سؤال يستبيح الذات، ذو همهمة خافتة ثنايا الروح المنهكة والمنتهكة، دمدمة مدوية في تجاويف البال المثخن بنصال الاستفهام. انتباذ ركن قَصِيٍّ من حانة رديئة، هروب من صخب الاستفهام الصامت، كفرار النائم من الصحوة، لاصطياد الرؤى يوم الكرى. لِصخب السلاف طاغوتٌ على ضوضاء الفؤادِ، المعتكف في محراب الصمت مناجاة كلام لا يحتاج الكلام.

مشاركة :