تعددت أقنعة الكاتب الألماني جرهارت هاوبتمان، كناقد وصحفي وناشر وروائي وشاعر، وكاتب مسرحي وكاتب رحلات، وكاتب قصة قصيرة. وهو أحد الأدباء القلائل الذين انتموا في كتاباتهم إلى النصف الأخير من القرن االتاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، وفي عامه الخمسين منحته الأكاديمية السويدية، جائزة نوبل (1912)، ليكون من أصغر الأدباء الذين فازوا بها في أعوامها الأولى، والألماني الخامس بعد المؤرخ تيودور ممسن (1902) والفيلسوف رودولف أوكن (1908)، والشاعرة سلمى لاجيرلوف (1909)، والشاعر بول هسه (1910). ولد جرهارت هاوبتمان في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1862، وعاش سنوات طفولته في معاناة دائمة، وشاركه أخوه كارل هذه الحياة القاسية. وقد حالت المتاعب دون حصول هاوبتمان وشقيقه على شهادات علمية، ولذلك اتجه الصبي إلى دراسة الفن التشكيلي في إحدى المدارس المتخصصة، حيث أتقن النحت ليكون هذا الفن من هواياته الخاصة، والتي يتمتع بالاستغراق فيها، إذا لم تسعفه الكلمات للتعبير عما يعتمل في داخله من مشاعر وانفعالات. وقد درس هاوبتمان العلوم الطبيعية، والفلسفة والتاريخ، في محاولة لتحصيل ما فاته من دراسات أكاديمية، فضلا عن نهمه الشديد في القراءة والاطلاع على شتى أنواع الفكر والعلوم. وهكذا توثقت علاقة الشاب المتمرد والثائر على قسوة الحياة بالفنون والثقافة، حيث انضم في عام 1889 إلى فرقة المسرح الحر، وهو مسرح اهتم بالأشكال الحديثة في الفن، ويقدم رؤية معاصرة للحياة ، وبدأ هاوبتمان يزاول التمثيل، والمعايشة الحقيقية لعناصر المسرح من ديكور وإضاءة وحركة، مما ساعده على تفهم طبيعة العرض المسرحي، ومراعاة منطق "الرؤية والتلاحم مع الجمهور" في مسرحياته العديدة . نشر هاوبتمان أولى رواياته "زهرة الربيع" عام 1892، وأضاء من خلالها حياة البوهيميين "المتحللين من الأعراف والتقاليد الاجتماعية"، كما نشر روايته "مايتلد" عام 1902، وحقق شهرة واسعة باعتباره "زولا” الرواية الألمانية. وقد تميزت أعمال هاوبتمان بوصفه الدقيق لتفاصيل الحياة اليومية، والتقاط المفارقات بين السلوك الإنساني والفكر، والنزعات اللاأخلاقية التي سادت المجتمع في هذا الوقت . وكشفت مسرحياته عن روح ساخرة ومرحة، تستنهض القوة ولا تقبل الرضوخ بين براثن الإحباط والهزيمة، كما تميزت بقوة البناء الدرامي، وتجسيد "النص" في صورته الصالحة للعرض المسرحي، والاهتمام بتنامي السرد الدرامي، ومنطقية الحوار، وانتظامه في وعي وسياق الشخوص. وقد سجل هاوبتمان اهتماماً خاصا بالكوميديا، ودفع بعدد من المسرحيات التي أضافت إلى المسرح الألماني، ومهدت لحركة مسرحية جديدة. ونشر مسرحيته الأولى "عيد السلام" عام 1890، ومسرحية "آل تيسراند" عام 1892، "قبل الفجر" عام 1889، و"حيوات موحشة" 1891 ، فضلا عن مسرحيته التراجيدية الشهيرة "النساجون" عام 1892 . • التاريخ والأسطورة يقول هاوبتمان: "أعتبر نفسي جنديا يناضل ضد البؤس والفقر"، ولهذا ثار الكاتب على التقاليد الأدبية السائدة في عصره ، وتمرد على المدرسة الطبيعية التي انتمي إليها في أولي كتاباته، لتشكل النزعة الاجتماعية والاهتمام بالتاريخ والأسطورة دعامات أساسية، وهو ما أعلنه في سيرته الذاتية "مغامرة شبابي"، والتي تعتبر درة أعماله، ليسقط الأقنعة الزائفة، ويبوح بمعاناته الشديدة في طفولته، وطموحه الدائم من أجل ارتياد آفاق إبداعية، والتأكيد على بزوغ فجر جديد للحرية والعدالة وكرامة الإنسان. وكان فوزه بجائزة نوبل، وهو يحتفل بعيد ميلاده الخمسين، دافعاً إلى مزيد من الإبداع والتحقق، ليصبح من الكتاب القلائل الذين فازوا بالجائزة، واستطابوا الترف وبطالة المجد، وهذا ما يفسر لنا استمرار الكاتب بذات العنفوان في النصف الأول من القرن العشرين وحتى وفاته في 6 يونيو/حزيران 1940 . ورغم شهرة هاوبتمان كأديب وفنان، إلا أن ميوله النقدية، قد ساهمت إلى حد كبير في التعريف بأدباء عصره، الذين تناول أعمالهم بالنقد والتحليل، حيث نشر دراسته المهمة "في أدب الخيال" عام 1901، ليصبح مؤسسا لاتجاه نقدي حديث، من خلال النماذج الإبداعية لكتاب مثل ييتس، وبروست وجويس. • ميراث سوانا يرى كثير من النقاد، أن هاوبتمان مهد الطريق للأدب الألماني، للدخول في عصره الذهبي، ورسم صوراً ساخرة للحياة المعاصرة، صورت في ظاهرها حياة العصور السالفة. ورغم شهرته ككاتب مسرحي، إلا أن رواياته حققت شهرة موازية، مثل "جنون إيمانويل كوينت" عام 1910، وتناول فيها تجربة شديدة الخصوصية، وعلاقات متأزمة مع العالم، وفي روايته "ميراث سوانا" عام 1911، يسرد الراوي وقائع حياة الراعي الذي يبيع روحه للشيطان، علي غرار أسطورة "فاوست"، لتنامي الأحداث بشكل مأساوي، يضع الشخوص على حافة الهاوية. وفي روايته "الأطلنطية" المنشورة عام 1912، يلقي الكاتب الضوء علي أحداث معاصرة، من خلال سيرة العالم بكتريا، الذي يعاني من متاعب زوجية عديدة، لانشغاله الدائم بأبحاثه واكتشافاته العلمية، وتتصاعد الأحداث ليصاب "بكتريا" بحالة من التوزع النفسي بين تلبية احتياجات زوجته، وبين شغفه الدائم بالعلوم، وابتكار اختراعات جديدة تفيد البشر، وتصنع له المجد، ولكن العالم يرتكب خطأ علميا يفقد على أثره وظيفته، ويقرر الرحيل إلى الولايات المتحدة الأميركية، وفي الطريق، يواجه نفسه بعاصفة داخلية شديدة تدفعه إلى الرجوع عن يأسه، وعدم الاستسلام إلى الواقع المحبط. ولعل رواية "شبح" المنشورة عام 1923، تقترب في موضوعها من حياة هاوبتمان، فهي عن التغير الذي طرأ على حياة فنان يعمل في مجال النحت، بعد أن دخلت حياته فتاة جميلة صغيرة، استطاعت أن تسحبه معها إلى دروب الظلمات، وأن تجعل منه قاتلا محترفا، ويلاحظ أن الكاتب قد أطلق العنان لخياله، ويضيف الكثير من الأحداث التي لا تستند إلى واقعه الحياتي، رغم التلويح الدائم بخصوصية التجربة. يقول الناقد الفرنسي ليونيل ريشار: إن هاوبتمان قد دخل الآن دائرة النسيان، لكنه عرف الكثير من لحظات المجد والشهرة، ليس فقط حين حصل على جائزة نوبل، أيضا حين عرضت مسرحيته “"ابنه الكاتدرائية" في أكتوبر/تشرين الأول عام 1939. بعد إعلان الحرب العالمية الثانية، ففي ليلة الافتتاح، جاءت الجماهير الألمانية لتشاهد المسرحية، وتزدحم عند بوابة الدخول، وذلك هربا من مشاعر قسوة الحرب. وكانت المفاجأة أن المسرحية تتحدث عن فظائع وويلات الحروب . واختلفت الآراء حول مناصرة هاوبتمان للنازية، وإن كانت مسرحيته الأخيرة قد أثارت عليه غضب النازيين، ليعش سنوات شيخوخته في معاناة شديدة، وكأن الدائرة تعود إلى نقطة البداية، ليحيا هاوبتمان بين طفولة قاسية وشيخوخة أشد قسوة، وما بينهما إبداع متصل، وتحققاً حفظ لاسمه الدخول في دوائر الشهرة والمجد .
مشاركة :