الإحباط العام يغيب الغرافيتي عن الشارع المصري لم يتوقف سيل الكتابات والرسوم الغرافيتية على جدران وشوارع المدن العربية التي طالتها رياح الربيع العربي، وسائل كثيرة كنا نسمع عنها أو نراها في شوارعنا على استحياء، صارت مع الوقت جزءا من حياتنا اليومية، استخدمت تلك الوسائل نفس المفردات التي يتعامل بها المحتجون حول العالم، كما تشابهت إلى حد كبير في تفاصيلها، فأطاحت هذه الوسائل الاحتجاجية بحسابات المكان والجغرافيا، تداولتها الأبصار والأسماع حول العالم، وتناقلتها وسائل الإعلام في كل مكان. العربناهد خزام [نُشرفي2017/01/18، العدد: 10516، ص(16)] فن يشتبك مع العابرين ليعبر عنهم انتشرت عدوى الاحتجاج بواسطة الرسوم الغرافيتية على جدران المدن العربية التي شهدت ثورات الربيع العربي، وتدفقت الشعارات والعلامات والصور من شارع الحبيب بورقيبة في تونس إلى ميدان التحرير في القاهرة، مرورا عبر شوارع وميادين سوريا وليبيا واليمن. القاهرة كغيرها من العواصم العربية الأخرى التي شهدت تناميا ملحوظا لهذا الفن خلال أحداث الربيع العربي، فقد كان للغرافيتي حضور لافت، ليس في القاهرة وحدها، بل وفي العديد من المدن المصرية الأخرى البعيدة عن العاصمة، وبرزت الكثير من الرسوم التي لم يُعرف أصحابها ووقعت بأسماء مجهولة مثل كايزر، وباندا، وجنزير وغيرها من الأسماء المستعارة. رسوم تفاوتت في مستوياتها، فمنها ما تميز بالاحترافية ومنها ما اتسم بالفطرية، لكنها جميعا كانت تصب في خانة الاحتجاج على الممارسات والسياسات التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، بداية من حكم المجلس العسكري إلى حكم الإخوان، وما تبعه من فترة انتقالية، وغالبا ما كانت تقابل هذه الرسوم بالهجوم والإزالة من قبل الإدارات المحلية بحجة التجميل أو إعادة طلاء الشوارع، فيعيد الفنانون رسمها من جديد في نفس الأماكن. الرسوم التي كانت موجودة على جانبي شارع محمد محمود على سبيل المثال، وهو أحد أشهر الشوارع القريبة من ميدان التحرير وشهد العديد من المواجهات والأحداث الساخنة، أعيد رسمها أكثر من مرة، كما انتشرت في الشوارع القريبة منه العشرات من الصور والرسوم لوجوه الشهداء الذين سقطوا خلال الأحداث المختلفة التي شهدتها الثورة المصرية، غير أن هذه المساحة التي كانت تشغلها رسوم الغرافيتي قد تقلصت خلال الآونة الأخيرة حتى بات من النادر حاليا أن تعثر على واحد من هذه الرسوم التي كانت تملأ شوارع القاهرة قبل سنوات. لماذا اختفت رسوم الغرافيتي من على جدران القاهرة؟ سؤال ربما يتبادر إلى ذهن الكثيرين ممن تابعوا صعود هذا النوع من الممارسة الفنية بعد شهور من اندلاع الثورة المصرية. عبدالرحمن، هو واحد من الفنانين المجهولين الذين شاركوا في الرسم على جدران شارع محمد محمود، يرى أن اختفاء الرسوم الغرافيتية من على جدران الشوارع هو أمر مرتبط بانحسار الموجة الثورية، فلم يعد لفناني الغرافيتي ذلك النصير الشعبي الذي كانوا يحتمون به في مواجهة القبضة الأمنية أو العسكرية، كما أن العديد من هؤلاء الرسامين قد تغيرت قناعاتهم بعد انتهاء حكم الإخوان وفضلوا الدخول في مهادنة مع السلطة، خاصة مع تزايد الهجمات الإرهابية التي تشنها الجماعات المتطرفة في سيناء أو في أماكن أخرى من مصر، لقد فضل الكثيرون منهم، كما يقول عبدالرحمن، أن يعطي نفسه الفرصة حتى تتضح الصورة. ما يتم عرضه داخل القاعات المغلقة من الصعب تسميته بالغرافيتي، فالغرافيتي مرتبط بالشارع أولا وأخيرا من هؤلاء الفنانين الذين ذكرهم عبدالرحمن من اتجه إلى عرض أعماله في قاعات العرض كـ”كيزر” الذي تُعرض أعماله حاليا في قاعة “مشربية” بوسط القاهرة، ومنهم من انخرط في العديد من المبادرات والفعاليات التي رعتها الدولة ممثلة في وزارة الثقافة المصرية كـ”مهرجان الغرافيتي” أو “ملتقى فناني الغرافيتي”، وغيرها من الأسماء الأخرى، فهل خضع فنانو الغرافيتي في مصر لعملية تدجين؟ ياسر كمال هو واحد من الفنانين الذين شاركوا في هذه الفعاليات، وهو من خريجي الفنون الجميلة، يعلق قائلا “لقد شاركت بالفعل في إحدى هذه الفعاليات التي رعتها الدولة كنوع من النشاط الفني، لكنني توقفت لأني غير مقتنع بأن ما نقوم به في مثل هذه الفعاليات له علاقة بالغرافيتي، فما يتم عرضه داخل القاعات المغلقة من الصعب أن تطلق عليه كلمة غرافيتي، فالغرافيتي مرتبط بالشارع أولا وأخيرا، وإذا ابتعد عن الشارع فلن تكون له أي علاقة بهذا الفن الجماهيري، يمكنك أن تطلق عليه شيئا آخر”. ويتفق مع هذا الرأي أغلب فناني الغرافيتي الشباب، ويرى بعضهم أن فنان الغرافيتي الحقيقي من الصعب أن يهادن السلطة، أيا كانت هذه السلطة، لأنه حينها سيفقد سببا رئيسيا من أسباب الممارسة التي يقوم بها. في المقابل، هل على فنان الغرافيتي أن يكون معارضا على طول الخط؟ ألا يمكنه أن يتبنى في وقت من الأوقات وجهة نظر السلطة، إذا كانت متوافقة مع قناعاته؟ سمر يحيى واحدة من فنانات الغرافيتي، وهي لم تدرس الفن، لكنها علمت نفسها بنفسها وترتبط رسومها عادة بالقضايا المتعلقة بالمرأة، وعن السؤال تعلق قائلة “ليس بالضرورة أن تكون هذه السلطة متمثلة في السلطة السياسية، فهناك أشكال متعددة للتسلط، في المدرسة أو البيت أو العمل أو في الشارع، أنا أعتبر التحرش على سبيل المثال نوعا من التسلط على المرأة، وهو محاولة لقهرها وتحجيم دورها، وأنا لا أبرر هنا فكرة المهادنة مع الأنظمة الحاكمة، فهناك على طول الخط العديد من القضايا القابلة للخلاف مع هذه السلطة حتى مع أكثر الأنظمة ديمقراطية، فما بالك بالأنظمة في بلادنا”. وعن تقلص مساحة الغرافيتي في شوارع القاهرة، تقول يحيى “أنا أعتقد أن هناك مناخا عاما من الإحباط، وهو إحباط طال فناني الغرافيتي كما طال غيرهم من شرائح المجتمع، وهناك أسباب كثيرة لهذا الإحباط أبرزها أن سقف الطوحات الذي كنا نفكر فيه كان عاليا بدرجة كبيرة، غير أن هذه الطموحات قد اصطدمت بالواقع وبمدى قدرتنا وتحملنا للمسؤولية، أنا أعتقد أن التغيير الجذري لا يتم على هذا النحو، بل سيأخذ وقتا ويحتاج إلى المثابرة ومواصلة العمل، وعلى فنان الغرافيتي ألا يستسلم للإحباط أو إغراءات المهادنة مع السلطة أيا كانت هذه السلطة، أو الخضوع لمحاولات الترويض”. فهل سيظل الغرافيتي فنا للاحتجاج في مصر رغم كل المحاولات الرامية إلى حصاره أو ترويضه؟ وهل يمكن له أن يتخلى عن مكانه الطبيعي على جدران الشوارع والميادين إلى قاعات العرض الضيقة؟ فالغرافيتي ليس مجرد مساحة لتسجيل الأحداث، بل هو فن يصنع الحدث، ويشتبك مع العابرين، ويثير جدلا في ما بينهم. :: اقرأ أيضاً هل يختفي سور الأزبكية بعد 100 عام مع الكتب والقراء ملاك لطيف: أكتب عن نفسي وصوتي صوت الجميع الشهرة أسوأ من اندلاع النار في بيت محاورة بين توفيق الحكيم وبرتولد بريخت
مشاركة :