عمر الفيومي راهب مقاه يبعث الحياة في الوجوه المصريةاستضافت قاعة “مصر للفنون” في القاهرة معرضا لأعمال الفنان المصري عمر الفيومي، ضم مجموعة كبيرة من الأعمال المرسومة بخامة الألوان الزيتية تحت عنوان “وجوه الفيومي”، وهي تجربة ممتدة سبق وأن تناولها الفنان من قبل في سياق بحثه حول الأيقونة كمثير بصري وجمالي يجمع ما بين إيحاءات الماضي والحاضر.العرب ناهد خزام [نُشر في 2017/03/31، العدد: 10588، ص(17)]وجوه الحاضر بشجن الماضي يستلهم التشكيلي المصري عمر الفيومي رسوم الوجه في معرضه الجديد بقاعة “مصر للفنون” في القاهرة من مجموعة البورتريهات الأثرية المعروفة بـ”وجوه الفيوم”، والتي تم العثور عليها في بداية القرن العشرين في أجزاء مختلفة من مصر، وحملت اسم مدينة الفيوم الواقعة جنوب القاهرة، والتي عثر فيها على الجانب الأكبر من هذه الوجوه الأثرية. وأبدع الرسام الفرعوني تلك الوجوه كي تتعرف الروح على صاحبها في الحياة الأخرى حسب المعتقد المصري القديم، فكان يتم رسم وجه الشخص المتوفى على المومياء الخاصة به في كامل زينته، وغالبا ما كانت ترسم صورة المتوفى من زاوية مواجهة كي تُظهر الصورة جميع ملامحه. ومن وحي هذه الوجوه رسم الفنان عمر الفيومي مجموعة كبيرة من البورتريهات بداية من تسعينات القرن الماضي، وظلت التجربة ملازمة له يعود إليها بين الحين والآخر في سياق رصده للشارع المصري. وأوجد هذا التشابه بين اسم الفنان ومجموعة الوجوه الأثرية حالة من الامتزاج الوجداني والنفسي، فهو يمارس الطقس نفسه الذي كان يمارسه الرسام المصري القديم في تناوله للوجوه من منظور روحاني، مؤكدا على روح الشخصية والحالة الحيادية للملامح المرسومة. وفي حين كان الفنان الفرعوني يرسم صور الموتى، يرصد الفيومي في أعماله وجوه الأحياء الذين يتحركون في فضاء المدينة الواسع، وإن امتلكوا النظرة الشاحبة نفسها. ولا شك أن هذه المقابلة البصرية بين وجوه الموتى والأحياء الذين يحملون السمات نفسها تتضمن دلالتها المرتبطة باللحظة الراهنة، ففي مدينة مهولة كالقاهرة يسحق البشر تحت وطأة الضغوط الحياتية والضجيج المتواصل. ومثلت رسوم البورتريه أحدَ تجليات تجربة المقهى عند عمر الفيومي، هذه التجربة التي استغرقت سنوات طويلة، فهو الراصد الأول لسيرة المقاهي القاهرية، لا ينازعه فيها أحد.المقهى في لوحات الفيومي يختزل المدينة وشواغلها، ويؤطر كل ما يجيش في صدور سكانها من لوعة واشتياق وأسى والفيومي حين يرسم المقهى كأنما يرسم القاهرة بشوارعها وسكانها وأحيائها، فالمقهى في لوحاته يختزل المدينة، ويختصر كل ما يعتمل في باطنها من هواجس وأفراح، ويؤطر كل ما يجيش في صدور سكانها من لوعة واشتياق وأسى. وعلى هذا النحو قدم الفيومي مجموعة متنوعة من التجارب المختلفة التي تدور حول المقهى أو تستوحي روحها منه، ولا تخرج مجموعة البروتريه التي لا يكف عن رسمها من دائرة تأثير المقهى، فهو الراصد لوجوه الناس وانعكاس التغيرات التي تحدث على ملامحهم، ولا تخلو لوحة من لوحاته أو تجربة من تجاربه من هذا الوجود البشري، يبتعد أحيانا ليلملم تفاصيل المشهد، أو يقترب في أحيان أخرى ليُظهر لنا ما توارى عن أنظارنا. اقترب الفيومي من وجوه الناس الذين يشاركونه الجلوس على المقهى، راح يرسمهم في حالاتهم المتعددة، رسمَ أصدقاءه المُقرّبين، كما رسم أناسا عابرين. وفي لوحاته التي تناول فيها صورة المقهى، كان يرسم الناس في فضاء شاسع وممتلئ بالتفاصيل، أما في رسومه للوجوه فهو يقترب من هؤلاء الذين طالما رسمهم، متعمدا خلق حالة مثالية للوجه والملامح على غرار ما فعله المصري القديم: العيون الواسعة والأكتاف العريضة مع اهتمام واضح بالتفاصيل، وهو يرسم كل ذلك مصحوبا بمسحة أسطورية عابرة مكتسية بغمامة من الشجن أحيانا. ويبدو الحضور الأنثوي طاغيا في الوجوه التي رسمها الفيومي في معرضه الجديد المعنون بـ”وجوه الفيومي”، حيث يحتفي بالمرأة ويفرد لها مساحة من البوح، يعطيها الفرصة كي تعرض مفاتنها، تتهيأ للمشهد بكامل أناقتها في انتظار هذه اللحظة الفارقة التي تنعكس فيها صورتها على سطح الرسم في وضعية فوتوغرافية ساكنة، إلا أنها مسكونة بالحركة من دون صخب. والحركة هنا حيادية، لا تكاد تُرى، فهي في الكثير من الأحيان تبدو خالية من العناصر، وحده اللون يقبع في المنحنيات، ويملأ الفراغ بين العناصر بأشكال زخرفية ذات وجود باهت، مفسحا للوجه مجالا للرؤية والحضور.
مشاركة :