بيروت: رنه جوني عاد النبض إلى حرفة حياكة الصوف، بعد توقف قسري لسنوات طويلة، الحرفة التي راج عزها في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وتوقفت في ظل التطور الذي سلب الحرفة قيمتها لصالح الآلة، عادت لتحتل جزءاً من جلسات النساء الشتوية، قرب موقد الحطب. في منزلها العتيق الحجري الذي يفوق عمره المئة عام، في إحدى غرفه الصغيرة وجدرانه التي تتدلى منها صور بالأبيض والأسود، تجلس أم مارون، الستينية التي تعيش وحيدة مع خادمتها، على إحدى الأرائك تضع الصوف الملون، وأسياخاً معدنية بأحجام متعددة، وبالقرب منها توجد كنزة صوف تشتغل بها. تحمل أم مارون السيخين، وتبدأ في استكمال حياكة كنزة الصوف التي اختارت لها قطبة الجدايل المقلوبة، رغم سنها، ما زالت بارعة في عملها، تحيك بسرعة كبيرة، وكأنها آلة، تعلّمت أم مارون الحياكة مذ كانت في سن الحادية عشرة: تعلمتها من والدتي؛ كانت تحيك لنا الكنزات والتنانير، والوشاحات، بألوان مختلفة وتصاميم متنوعة، وكانت كل نساء الحارة يجتمعن حول حياكة الصوف لإنتاج ملابس لأولادهن، وكانت كل واحدة تبدع تصميمها كما ترسمه في مخيلتها. في الثمانينات في زمن الحرب الأهلية التي اجتاحت لبنان، كان السوق المحلي يعاني الاحتكار وغلاء الأسعار، لاسيما الملابس الصوفية، وكانت معظم العائلات عاجزة عن شراء الملابس لأولادها، لذا كانت الحياكة الحل الذي يمنحهن فرصة صناعة ملابس صوفية منزلية. حفظت صنارتها وأناملها العمل عن ظهر قلب، مشيرة إلى أن عمل الصوف شكل لها مصدر رزق، فكانت تعمل بشكل كبير نظراً لسوء الأحوال المادية، واليوم تبدلت الأحوال وباتت هواية ليس أكثر، وإن اعتمدها البعض مصدر رزق. تحوّلت حياكة الصوف عند ليلى تجارة منزلية، ليلى التي تعمل صباحاً حاجبة في إحدى دور الحضانة، تعمل فترة بعد الظهر وحتى ساعات متأخرة من الليل في حياكة الصوف، تضع تصاميم مختلفة، بعضها ترسمها والبعض تأخذه من الإنترنت، وتنفذه. حديثاً، تعلمت ليلى حياكة الصوف، من إحدى جاراتها، ثم خضعت لدورة حرفية، قبل أن تصبح عملها الخاص، تقول ليلى: في لبنان، أفق العمل ضيق، ونضطر للبحث عن عمل فردي، وطبعاً الحياكة ليست سهلة، بل تتطلب وقتاً وجهداً وتركيزاً دقيقاً، والخطأ ممنوع، إذ يكلفني فرط الكنزة وإعادة حياكتها مجدداً. باتت الحياكة بالنسبة لليلى الروح التي تتنفس عبرها، وفق ما تقول: تُنسيني كل مشاكلي، وتدفعني لأفكر كيف أحيك كنزة أو فتساناً غاية في الجمال، فالحياكة فن، ورسم أيضاً، حين تضع قطبة بقرب الأخرى، علماً بأن كل تصميم له غرزة مختلفة حسب طلب الزبون. ومن الغرزات التي تستخدمها ليلى لنسج الملابس، الجدلات والسادة والشقلوبة، باستخدام سياخ الحديد، أو الصنارات، ومن خلال الصنارة الواحدة، تنسج غرزة الوردة وقطف العنب والعنكبوت، وتستطيع بمجرد النظر لأي قطعة معرفة الغرزة المستخدمة فيها، وتقليدها بشكل فوري. قديما كان الصوف متوفراً في كل المحال، نظراً للطلب الكبير عليه، كان لا يخلو منزل من العمل به.. بددت العصرنة الواقع، وبات من يعمل بالحياكة محدوداً، إلاّ أنها قد تتحول في السنوات القادمة إلى حرفة السيدات بدون منازع، نظراً للظروف المعيشية، وهذا ما تؤكده الحاجة أم نزيه، التي تعمل في هذه الحرفة. وتقول: يستطيع الشخص انتقاء ألوان الملابس حسب ذوقه ورغبته، ولا يكون مقيداً بما يباع في السوق من ألوان وموديلات.إلى جانب كون حياكة الصوف، عادت لتتربع على عرش السهرات الشتوية، بعيداً عن سهرات الهواتف النقالة، فإنها تساعد أيضاً على رمي الهموم والمشاكل جانباً، ووفق خبيرة النفس الاجتماعي كارين جابر، فإن الحياكة تنشّط نصف الكرة المخية، بمجرد تمرير الإبرة في الصوف، ثم القيام بنفس الخطوة مرات متكررة.
مشاركة :