بطلة نهى محمود تقاوم «الجنون» بالكتابة

  • 4/7/2014
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

هل الكتابة هي الفعل الأقدر على مواجهة الجنون، ورفض المجتمع، وخسارة الصديقات؟ يبدو هذا السؤال واقعاً ملموساً يفرض رؤيته الخاصة في رواية «هلاوس» (صدرت في طبعة جديدة عن دار روافد) للكاتبة نهى محمود، وهي كانت حازت عنها جائزة دبي الثقافية عام 2013. تتميز كتابة نهى محمود بحساسية رهيفة في مقاربة الذات والعالم، هذه الحساسية التي تتمثل في أوجه عدة في رواية «هلاوس»؛ حين تبدأ البطلة الساردة بفعل مواجهة مع قولها في مطلع النص: «لتكن بداية بائسة... اسمع لست بريئة كما أبدو. أنا أدخن في الحمام، وأتعاطى الوهم طوال الوقت، وأصادق القطط وأغوي رجالاً لا يعجبونني». هذه البداية المباشرة في طرح «ذات البطلة» بلا مواربة، أرادت من خلالها فتح الباب أمام اعترافات أولية، توحي للمتلقي بأن ثمة ما لم يتم الكشف عنه بعد. انطلاقاً من هذا المنظور الداخلي، تمضي بطلة الرواية في طرح تساؤلاتها عن ذاتها وواقعها كامرأة وحيدة، وإن تكن هذه التساؤلات تتجاوز النسوي إلى الإنساني من خلال تقديم صور متجاورة للعالم النفسي للبطلة الساردة، متجاوراً مع حكايات لنساء أخريات؛ أو عبر تساؤلاتها عن الحب، التخلي، الوحدة، الشيخوخة، الخرف، الذاكرة، وزمن البدايات النهايات. يتشكل المعمار الداخلي في رواية «هلاوس» من ستة عشر فصلاً صغيراً، مما أضفى على النص الطابع القصصي، ويتضافر هذا مع غياب الزمن الممتد. فالأحداث في «هلاوس» لا تعتمد على الزمن الطولي، حيث لا شيء يتطور على مستوى الهيكل العام للحدث الخارجي، لأن الحراك الزماني، والمكاني أيضاً يقع في «زمن الحكي» الذي تمسك بدفته الراوية. تبدو بؤرة السرد في «هلاوس» مرتكزة إلى فكرة الذات في تماهيها مع الوحدة، مع غياب الآخر. بطلة الرواية كاتبة في الأربعين تظل بلا اسم حتى الصفحات الأخيرة من الرواية؛ وتعاني من القلق ما يجعلها على مسافة من الواقع، هي عاجزة عن الانغماس بالحياة تماماً على رغم تجنبها الشديد لذلك، لكنها تقف على الحافة، ويظل وعيها حاضراً على مدار النص، لأنها تحفر في ذاتها للوصول إلى الندوب الأعمق لآلامها؛ من خلال علاقتها بالكتابة، واختيار بطلة تشبهها بل تتماهى معها في صفاتها الجسدية والنفسية: «أفكر الآن في بطلة روايتي، ثلاثينية مثلي، ممتلئة مثلي، بيضاء مثلي، تجمع شعرها الأحمر بشكل يلائم امتلاء وجهها... أبتهج لأني أرسم لها خطوطاً جسدية تشبهني، أجرب أن أرمي بجسد أعرف طريقته في الحياة وأحفظ خطوطه داخل الورق. بطلتي كاتبة أيضاً» (ص 25). انطلاقاً من فكرة «الكتابة» يبدأ التقاطع في السرد بين الراوية، ونص غائب تسعى إلى تشكيله، تبحث عن حكاية امرأة تشبهها، لا تمنحها اسماً، بل تسبغ عليها صفات من ذاتها ومما تحب وتكره، مدركة بوعي الكاتب أنها تشكل شخصية ورقية، لتتحوّل إلى كائن مرئي من لحم ودم. هكذا تحضر تفاصيل ذاكرة الحواس الحميمية المتعلقة بهذه الذات أيضاً مثل النوم والأرق، الطعام، الثياب، الطهو، الرائحة، تلك التفاصيل – على حميميتها- تزيد من رقعة الهلاوس في تقاطعها مع الذاكرة والتاريخ الماضي لبطلتها التي تستحضر حكايا نساء العائلة في البيت الكبير، وتستمد من ماضيهن ما يعينها على مواجهة الحاضر. يظل النص محكوماً برؤية واحدة، حتى الصفحات الأخيرة وظهور راوٍ عليم يسرد كل ما مضى، ويمسك خيط الحكاية الأول ويكشف عن الانهيار الحتمي الذي بدا كنبوءة قدرية منذ السطور الأولى. لنقرأ: «فتحت شبابيك روحها للحزن وتركته يدخل من كل جانب... انغماسها في حالة مشابهة للانهيار الذي أصابها، اختلاط مشاعرها مع ما تكتب في روايتها الجديدة، المعارك الكثيرة التي تخوضها الآن، طواحين الهواء الخربة الممتلئة بأشباح مجنونة، تستنفد قوتها وترهقها» (ص 91). تسيطر فكرة الهلاوس على صفحات الرواية بأشكال مختلفة، من الممكن أن يتسبب حدث صغير وعابر بالأرق والهلاوس، ويؤدي بالبطلة إلى رؤية أشباح جداتها اللواتي يتحركن في البيت بحرية تامة لأنهن لم يمتن. لكنّ الهلاوس والأرق، وسائر الحالات النفسية المضطربة الموجودة في النص، تتعامد أيضاً مع وجود حالة من الوعي في مقاربة العالم، والحذر من الاندماج فيه. تتمسك البطلة على مدار النص بالمسافة التي تفصلها عن خوض الحياة. على رغم توهمها أنها قامت بالكثير من الأفعال التي كسرت صورتها عن ذاتها وما ينتظره منها الغير، تكتفي بالمراقبة من بعيد، لا تحاول الاستسلام للتجربة بل تعيش تجارب باطنية ومتخيلة على اعتبار أنها واقع، أو حدث سيأتي؛ وتستمر في سردها مراوحة بين حالتين: الحقيقة والمتخيل؛ تطرح تساؤلاتها عن أسباب وحدتها، وعن شغور روحها، وترديها في الفراغ من دون حب حقيقي ينقذ أيامها من الرتابة والملل؛ تقول: «أخجل من التمادي في الاعتراف بأني امرأة عاثرة الحظ، وأني أخفق طوال الوقت في العيش مع رجل باستقرار. رجل يُلزمني بالتوقف عن تعاطي الحبوب المهدئة، يمنحني الطاقة والرغبة بأن أمضي نهاري كله في المطبخ، رجل يهب لي سبباً قوياً لاعتنائي المفرط بجسدي..» (ص 23). من هذا المنطلق اللولبي اللاهث في التنقيب داخل الذات من دون الوصول إلى أي نتيجة، وتزامن العالم الداخلي مع توقف حركة العالم الخارجي في عالمها، تمضي البطلة في ارتدادها نحو سنوات الطفولة، والمراهقة، تطرح أسئلتها عن العلاقة مع الأم، مع الأب، مع الأخ، مع الزوج من دون أن تتمكّن من الإخلاص لذاتها تماماً. وفي موازاة هذا تحضر احتمالية الجنون في أكثر من موضع من النص لنقرأ: «يظن يحيى أني مجنونة»؛ «في سن الواحد والعشرين كان أمامي خياران، أن أكون نزيلة دائمة في مصحة نفسية أو أصبح كاتبة»؛ «أفكر كثيراً أن الكتابة تنقذني من الموت أيضاً»، «مسألة إصابتها بانهيار عصبي لم يكن مفاجأة لها»؛ «استعدت هي للانهيار، سمحت لبوادره أن تحل». يمكن التوقف في «هلاوس» أمام فكرة وجود نص داخل النص، بحيث يهيمن على السرد صوت البطلة الساردة. فمنذ بداية الحدث تحكي قصتها كما تراها هي، ومن ثم يتقاطع مع حكايتها حكاية بطلتها التي تكتب قصتها، وبين الحكايتين ثمة تيمات مشتركة، وتداخلات في السرد بين البطلة الراوية، وبطلة أخرى مروي عنها. ويصل هذا التقاطع إلى ذروته في الجزء المعنون بـ «لقطة أخيرة»، يظهر راوٍ عليم يمسك دفة السرد، وإن لم يتجاوز ظهوره صفحات عدة، إلا أن تحوّل زاوية الرؤية من «الأنا»، إلى راوٍ خارجي يراقب التغيرات ويقدمها للقارئ منح النص نظرة شمولية أكثر، كما دمج كلتا البطلتين فلا يمكن القارئ أن يميز أي منهما من أصابها الانهيار حقاً. تقاوم الجنون بالكتابة

مشاركة :