صدر بعل قارة جمال خالص تتنفس هواء تونسيا بقلم: فاروق يوسف

  • 1/22/2017
  • 00:00
  • 15
  • 0
  • 0
news-picture

فكرة خيالية تجسّدت على هيئة نزل تسكنه أرواح الفنانين الهائمة، وبسبب طليعية الفكرة فإن كل عمل فني تُقدم من خلاله يبدو كما لو أنه قادم من المستقبل. العربفاروق يوسف [نُشرفي2017/01/22، العدد: 10520، ص(10)] صدر بعل الإقامة على جناح طائر تونس - متحف هو أم فندق، صدر بعل هذا؟ لأول وهلة يبدو الالتباس ممكنا. غير أن جولة قصيرة بين أروقة ذلك الصرح الفني وباحاته وغرفه وسلالمه يمكنها أن تحل لغزه الكبير. فهو وإن بني عام 1998 على هيئة متاهة، متشعبة الدروب فإنه في الوقت نفسه يحرص على أن تكون دروب متاهته مشبعة بالخيال، غاصة بالتفكير في ما يمكن أن يكون عليه الجمال المجاور وهو يقف وجها لوجه أمام جمال الطبيعة الذي يتقدم إلى اليابسة مع كل موجة من موجات البحر. فالبحر القريب جزء من المشهد وليس المشهد كله. البحر عنوان آخر للمتاهة. جمال وهدوء وترف يخلص المرء وبسرعة متناهية إلى حقيقة ما ينطوي عليه ذلك الفندق من فكر جمالي، يتجاوز بقوة وعيه التاريخي الرغبة في التزيين وتسلية العين ومتعتها المؤقتة التي تُنسى ما إن يكف المرء عن التجوال في الفندق. هناك مسعى لإنجاز أثر بصري يبقى، يحمله المرء معه، باعتباره واحدة من الهبات الكريمة النادرة على صعيد ما تحققه من سعادة، تذهب بإيقاع نشوتها وإلهام بصيرتها إلى الروح مباشرة. لهذا يمكنني القول “لقد نجح صدر بعل في تقديم فكرته عن متحف الفن الحي”. فمجموعته الفنية الرفيعة التي تعود إلى كبار رسامي العالم العربي هي في حقيقتها خلاصة بحث جمالي دقيق ومتقن في تاريخ الجمالية الفنية، استغرق إنجازه سنوات طويلة. وهو ما يعني أن المرء وهو يرى أعمال تلك المجموعة أو الجزء المتيسر منها سيكون مسافرا في الممرات الهوائية التي شقها فنانو المنطقة في طريقهم إلى الجمال المطلق والملتزم بشرطه الإنساني في الوقت نفسه. ذلك الجمال الذي لا يزال يتنفس هواء عصور مترفة. وبسبب تلك الأعمال يشعر النزيل بأنه يرى العالم من موقعه وهو يقف على جناحي طائر عملاق، يخترق به الزمن، وفي الوقت نفسه ينزلق به إلى أعمق نقطة من جوهر المكان الذي لا يكف عن تقديم مقترحاته الخيالية. التاريخ لا أثر له، بالرغم من أن عددا من منتجي تلك الأعمال الفنية التي تسكن صدر بعل هم اليوم غائبون عن عالمنا الأرضي. لقد تركوا أعمالهم وهي تحلق بأرواحهم النبيلة في فضاء النزل-المتحف يعيش المرء تجليات الروح في أبهى صورها فيما يمارس نزهته اليومية العادية. وهي نعمة يضعها صدر بعل موضع التنفيذ في كل لحظة يتأمل فيها المرء تلك الأعمال الفنية التي لا يخلو متر منها. فهي تشكل فضاء متخيلا آخر يفضي إلى عالم مسكون بكل ما هو جديد ومختلف وخارج على المألوف ومتمرد على سياقات العرض التقليدية. واجهة لذائقة جمال متعفف ذلك كله يفضي إلى مفهوم جديد للسياحة قائم على التفريق بين الثقافة السياحية والسياحة الثقافية، وهما بطبيعة الحال ليسا الشيء نفسه. فالأولى تروج للقيم السياحية أما الثانية فإنها تصنع من السياحة مناسبة للترويج للقيم الثقافية. ما فعله صدر بعل من خلال عروضه الفنية الدائمة إنما يدخل في نطاق محاولة الانفتاح على مفردات الوعي الجمالي الحديث، من غير أن تجري تلك المحاولة ضمن الأطر التقليدية، المتعارف عليها في تقديم الفن إلى الجمهور العادي. صدر بعل وهو فندق تونسي يقع في ياسمين الحمامات اخترع طريقة وأسلوبا جديدين وجريئين في تقديم الفن إلى المتلقين الذين لم يحضروا إليه أصلا من أجل رؤية أعمال فنية. وهو ما يضفي على المحاولة طابعا طليعيا، من جهة ما تنطوي عليه تلك من مبادرة خلاقة لكسب جمهور جديد، يضاف إلى الجمهور التقليدي في شغفه برؤية الأعمال الفنية. وإذا ما عرفنا أن تلك المبادرة الطليعية كانت في جزء منها موجهة إلى الفنانين قبل متلقّي أعمالهم من خلال الإقامات الفنية التي رعاها صدر بعل بكرم وأريحية يمكننا التعرف على المسافة التي اختصرها رواد المشروع من أجل إضفاء طابع المعاصرة على محاولتهم. المعاصرة هي الأساس الذي تنطلق منه فكرة أن يكون الفن صانعا لذائقة متلقيه. وهي فكرة تضع السياحة الثقافية على الطريق الصحيحة التي تقود إلى الهدف النبيل. الفندق متحف للفن الحي صدر بعل هو فكرة خيالية، تجسّدت على هيئة نزل تسكنه أرواح الفنانين الهائمة. وبسبب طليعية تلك الفكرة فإن كل عمل فني تُقدم من خلاله يبدو كما لو أنه قادم من المستقبل. لا أثر للتاريخ، بالرغم من أن عددا من منتجي تلك الأعمال الفنية هم اليوم غائبون عن عالمنا الأرضي. لقد تركوا أعمالهم وهي تحلّق بأرواحهم النبيلة في فضاء النزل-المتحف. بالتأكيد ليس لصدر بعل مثيل في العالم العربي، ولكن مثيله في العالم هو الآخر نادر كما أتوقع. ما من فندق في العالم يسعى إلى تثقيف نزلائه وتربية ذائقتهم الجمالية بالأسلوب الهادئ والرقيق والحييّ الذي يتبعه صدر بعل. هناك شيء من الأناقة الروحية يتخلل العروض الفنية الدائمة التي يشهدها المرء كلما انتقل من مكان إلى آخر. وهو ما يضفي على فكرة المشي بين طرق النزل المتشعبة إحساسا بسفر متعدد المستويات في تأثيره بين نزيل وآخر. وهو ما يحقق هدفا مهما من أهداف تلك العروض. يتمثل ذلك الهدف في الرغبة في أن يُعاش الفن باعتباره لازمة حياة عابرة. الحاضر كل لحظة في متاهة النزل يهتدي المرء إلى غرفته أو يرشد الآخرين إليها من خلال الأعمال الفنية التي صارت رفيقة عاداته اليومية. تشكل تلك الأعمال علامات دالة، عن طريقها يتعرف المرء على طريقه. كأن يكون المطعم بعد رسوم علي بن سالم والنادي الرياضي تقود إليه حروفيات عبدالمجيد البكري أما الاستقبال فإنه يقع على بعد مترين من رسوم رضا بالطيب. كنت أعرف أثناء إقامتي في ذلك النزل أنني قد اقتربت من غرفتي حين أرى محفورات إبراهيم الضحاك. لا أظن أن أحدا يقيم في ذلك النزل إلا وقد ألحقه الفن بأوهامه. وسيكون عليه أن يلتحق بالفن لكي يكون موجودا. فالإقامة بين الأعمال الفنية تشعرنا بخفة العيش، وهي خفة تهيمن على النزلاء بدل أن تتسلل إليهم من المشاهد الخيالية التي يخترقونها كلما حاولوا الانتقال من مكان إلى آخر. لمَ لا نكون نحن أيضا جزءًا من ذلك العالم الذي تم اختراعه من أجل أن يكون الجمال حاضرا في كل لحظة أمامنا؟ أعمال فنية تحلّق بأرواح أصحابها في فضاء النزل-المتحف فكرة الفن في فندق ليست جديدة، بالرغم من ندرتها، غير أن الجديد في ما يراه المرء في صدر بعل أن يكون الفندق متحفا للفن الحي. ذلك المتحف الذي يسبق الحياة إلى جمالها، بدلا من أن يؤرخ لجمال سابق. لم أكن محظوظا لأنني لم ألتق بمبتكر تلك الفكرة، محمد العموري، جامع الأعمال الفنية وصاحب سلسلة فنادق صدر بعل. لقد صنع الرجل زمنا يشبهه. هو ذلك الزمن الذي يحلّق بالمكان. أتخيله وقد خلق فضاء لمزاجه رجلا سعيدا. لم يحتكر الجمال الذي شغف به بل وضعه في خدمة بشر، لن يكون أحد منهم معنيا بالتعرف عليه. كنت كلما شعرت بالسعادة وأنا أرى عملا فنيا جميلا التفت إلى ذلك الرجل الذي أحسن إليّ. أليس الجمال نوعا من الإحسان؟ أقول لرؤوف وهو ابن ذلك المحسن الجميل “صانع الجمال هو أعلى مرتبة من الجمال” فيلتفت بحياء إلى رضا، صديقي منذ ربع قرن، وهو الرجل الذي وضع حياته كلها في خدمة الفن، “شيء من قلقك الجمالي يا رضا لا يزال يحلق بالكائنات التي اخترعت لها حياة جديدة. تلك لوحاتك التي وهبت المكان سعة الفردوس”. أتخيل رضا العموري وهو يلتفت بسعادة إلى ماضيه. إنه يمشي الآن بين أحلامه التي لم يغادرها بعد. قد يلتقي في أيّ لحظة ذلك الشاب المغامر الذي كانه قبل ربع قرن، يوم ذهبنا بسيارته إلى بيت والديه بصفاقس. في صدر بعل صارت أحلامنا حياة معاشة. غير مرة حاول أن يخبرني بتواضع أن حلمه لا يزال في بداياته. :: اقرأ أيضاً وليد فارس ودينا حبيب عصا ترامب في مواجهة الإسلاميين يحيى الشامي قائد عسكري حوثي يجيد العزف على أوتار السياسة كريمة مختار كاريزما مصرية تشبه جميع الأمهات

مشاركة :