زبير التركي رسام الجمال الخالص المحتفي بالحياة بقلم: فاروق يوسف

  • 4/23/2017
  • 00:00
  • 16
  • 0
  • 0
news-picture

فنان تونسي في كل ما رسمه هناك مديح لا ينقطع للجمال، وفي كل مرة يرسم فيها الجسد البشري يكتشفه من جديد كما لو أنه يعيد صياغته. العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/04/23، العدد: 10611، ص(10)]فنان يبقى منه نقاء خطوطه لندن - حين توفي زبير التركي عام 2009 ظهر مَن يتساءل عن مصير مدرسة تونس، كما لو أن التركي كان بمثابة روح تلك الجماعة الفنية ووصيتها الحية؟ الغريب أن التركي لم يكن آخر أعضاء الجماعة الأحياء. لا يزال هناك اليوم جلال بن عبدالله وحسن السوفي وفتحي بن زاكور والهادي التركي وحاتم المكي، وهم أعضاء في الجماعة لا يقل نتاجهم الفني قيمة عن نتاجه. فلماذا تم طُرح السؤال المتعلق بمصير الجماعة حين موته؟ من المؤكد أن زبير التركي قد جسّد من خلال رسومه المتقنة تعاليم تلك الجماعة في أرقى مستوياتها. لذلك فمن الضروري أن نعود إلى تلك التعاليم لكي نتعرّف على أهمية ما فعله، وهو الذي وقف إلى جانب رسامين هم رواد الرسم في تونس مثل عمار فرحات ويحيى التركي وعبدالعزيز القرجي إضافة إلى الفنانين الذين لا يزالون أحياء. عام 1949 أسس بيار بو شارل وهو رسام فرنسي جماعة فنية ضمت إضافة إليه الرسامين كوربورا وموزس ليفي وكلود للوش أطلق عليها تسمية مدرسة تونس. أربعة رسامين فرنسيين جذبتهم شمس تونس وسواحلها وبساطة العيش إلى ذلك البلد المتوسطي الساحر بمناظره الطبيعية والذي لا تزال تقاليده الشعبية حية في الشارع. كانت تلك الجماعة بمثابة ردّ فعل عكسي على مدرسة باريس التي بدأت قبلها بعام في العاصمة الفرنسية. بقدر تحرر مدرسة باريس ورمزها نيكولاس دي ستايل كان انضباط مدرسة تونس والتزامها بالأساليب التقليدية. ولأن أعضاء تلك الجماعة كانوا محليين في موضوعاتهم التي يغلب عليها طابع النظر الاستشراقي فقد قرروا أن يضموا إلى جماعتهم عددا من أبناء البلد ممَن توسموا فيهم الموهبة الكبيرة إضافة إلى الإخلاص إلى لائحة الشروط الجاهزة سلفا لدى الجماعة. وهي شروط لا تقتصر على نوع الموضوعات التي يجب أن تُرسم بل تتخطاها إلى التقنيات حيث كان التخطيط مفضلا على التلوين. وقبل كل شيء كانت الجماعة تناهض الحداثة الفنية بكل تجلّياتها. وهو ما تجلّى في ما بعد من خلال موقفها من حركات التجديد ورسامي الحداثة التونسية. ما منحته له إيطاليا ولد زبير التركي بتونس العاصمة عام 1924. درس في جامع الزيتونة وفي الوقت نفسه كان يتردد على مدرسة الفنون الجميلة. حين تخرجه عمل مدرسا للغة العربية في المدارس الفرنسية غير أنه فصل منها عام 1952 بسبب اشتراكه في إضراب مناهض لسلطة الاحتلال. حينها توجه إلى السويد ليدرس هناك الفن في أكاديمية الفنون الجميلة وليبدأ في إقامة معارضه الفردية في ستوكهولم وبراغ وكولونيا وميلانو. منحته المدينة الإيطالية يومها جائزتها لفن الرسم. بعد استقلال تونس عام 1956 عاد التركي إلى بلاده لينفذ مشروعه في إخراج فن الرسم إلى الفضاءات العامة من خلال إقامة جداريات أنجزها بخامات مختلفة مثل الدهن والحديد المطروق مستندا في ذلك إلى خبرته الفذة في استعمال الرسم الخطي.زبير التركي فنان حسي لذائذي. في كل مرة يرسم فيها الجسد البشري يكتشفه من جديد كما لو أنه يعيد صياغته. إخلاصه لتعاليم مدرسة تونس لم يكن عيبا إلا من خلال المقارنة بما انتهى إليه الفنانون المحدثون من أمثال نجيب بلخوجة ومحمود السهيلي وعبدالرزاق الساحلي وقبلهم علي بن سالم هل حرر التركي الرسم من تبعيته للمؤسسة الرسمية من خلال اللجوء إلى الشارع؟ في كل مراحل حياته كان الفنان ابن تلك المؤسسة، المستفيد من رغبتها في الهيمنة على المشهد الثقافي. قام التركي بتصميم ملصقات عدد من مهرجانات أيام قرطاج السينمائية كما صمّم الديكور لمسرحية مراد الثالث لمؤلفها الحبيب بولعراس ومخرجها علي بن عياد وعلى المستوى الوظيفي فقد كان له دور كبير في تأسيس مركز الفنون الحية بالبلفدير كما ترأس الاتحاد المغاربي للفنون الجميلة. كان زبير التركي صاحب حظوة في دوائر القرار السياسي وكان عمل مستشارا لعدد من وزراء الثقافة بتونس. يعتبر تمثال ابن خلدون واحدا من أهم أعماله النحتية. معلم الرسم وعدوه ما لا يمكن إنكاره أن زبير التركي كان في كل أحواله نموذجا للرسام المتمكن من أدواته الفنية. لقد قضى حياته وفيا لرسالته الفنية في الإتقان. صحيح أن مدرسة تونس قد خذلت التونسيين من جهة رفضها لقيام فن تونسي حديث، غير أن ذلك لا يمنع من النظر إلى تجربة زبير وسواه من أفراد الجماعة من جهة كونها تأسيسا لقواعد الرسم. لقد رأيت عددا من رسوم التركي الخطية في فندق صدربعل بالحمامات. هو فنان كبير لا يمكن أن تخطئه العين الخبيرة. شيء منه يحث الحواس على البحث عن مواقع لذتها. زبير فنان حسي لذائذي. في كل مرة يرسم فيها الجسد البشري يكتشفه من جديد كما لو أنه يعيد صياغته. إخلاصه لتعاليم مدرسة تونس لم يكن عيبا إلا من خلال المقارنة بما انتهى إليه الفنانون المحدثون من أمثال نجيب بلخوجة ومحمود السهيلي وعبدالرزاق الساحلي وقبلهم علي بن سالم. كان زبير التركي ابن عصره. وهو عصر صنعه رسامو الاستعمار الفرنسي بما وسع خيالهم له من طريقة في النظر إلى ثقافة البلد المحلية. وهنا بالضبط تظهر ضرورة هذا الفنان الملتبسة. إنه معلم أجيال. أن ترسم كما لو أنك إغريقي تلك مهمة صعبة غير أن المهمة الأصعب أن تكون تونسيا في ظل تلك الحمى الاستعمارية.ابداع لا ينتهي بسبب موهبته الاستثنائية كان زبير التركي بمثابة حجر الأساس المحلي لمدرسة تونس التي سعت إلى أن تغلق الأبواب أمام الحداثة الفنية. شيء من المفارقة يكمن في أن يكون معلم الرسم الكبير عدوا لتطوره. وهو ما كانه زبير التركي. لم يكن فنانو تونس أصحاب قضية ليسخّروا الفن في خدمتها. الفن هو قضيتهم الوحيدة والصعبة. مَن يتأمل رسوم زبير التركي على وجه الخصوص يبهره جمالها بل ما ينطوي عليه ذلك الجمال من صفات يمكن تعميمها بسبب تجريديتها كالنقاء والعذوبة والسلاسة والسحر ويمكن للعين أن تسترسل في انبهارها الحسي لتكتفي بالجمال لذاته من غير أن تلتفت إلى المعاني. في رسوم التركي هناك عزوف عن الترميز. ما من شيء يرسمه يرمز إلى شيء آخر أو فعل يقع خارجه. ما يُرسم هو المقصود لذاته، جمال ذلك الشيء وهو هبة طبيعية يقتنصها الرسام ليعيد تقديمها من خلال الفن. بالنسبة إلى فناني مدرسة تونس فإن الإخلاص لطبيعة الشيء المرسوم هو أعلى ما يمكن أن يفعله الرسام تعبيرا عن الاحتفاء بالجمال. في كل ما رسمه زبير التركي هناك مديح لا ينقطع للجمال. شيء منه يبقى أثنى الأديب التونسي المعروف محمود المسعدي على خطوط زبير التركي واعتبرها قد وصلت إلى درجة من النقاء لا تحتاج معها إلى اللون. غير أن الزبير نفسه اعترف أنه يرسم شخصيات مستلهمة من الواقع. الناس الذين عرفهم. بل كان يلجأ إلى تصوير نفسه مثلما جعل ابن خلدون يشبهه. النقاء الذي تحدث عنه المسعدي كان تعبيرا عن هدم حاجة الرسام إلى حاضنة ثقافية يستقي منها أفكاره. ما يبقى من زبير التركي هو ذلك الجمال الخالص الذي يفلت من الرغبة في التفكير في ما يحركه من أفكار. لم يكن التركي فنانا تعبيريا في أكثر مراحل انشداده إلى المشهد الشعبي. كان يرسم ما يراه بعين الشاهد. وهو ما وضع فن رسامي مدرسة تونس في موضع قريب من الفن السياحي. وفي ذلك ظلم كبير لما أنجزه فنانون كبار يقف زبير التركي في مقدمتهم.

مشاركة :