العربية أعرق من الشعر الجاهلي

  • 1/23/2017
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

محمد الأسعد إلا أنني لم أكن تعرفت بعد إلى نصوص أكدية مكتوبة بالحروف المسمارية، بل ولم يكن قسم الآثار يثير فضولي مثلما بدأ يثيره بعد ملاحظة ذلك الصديق. ولم يقل لنا أحد إن لنا كعرب صلة بهؤلاء القدماء، وأن ملاحمهم كتبت بلغة تنتمي للجزيرة العربية، أو أنها جزء من تراثنا الثقافي. كنا نقرأ ونحن في غفلة عن عربية تلك الحضارات ونصوصها، وزادت الحروف اللاتينية التي نقلت إليها نصوص الألواح الطينية والحجرية والمسلات والمساند اليمانية، ثم ترجمتها إلى العربية، من غربتنا وغربة ثقافات هؤلاء الأقوام عنا. كانت عربية عدد من كلمات ملحمة جلجامش التي رأيتها عياناً بين يدي صديقي ذاك واضحة، إلا أنني لم أذهب بعيداً في متابعة ما بدا لي موضع دهشة آنذاك إلا بعد سنوات، وحين توسعت قراءاتي، وبدأ علم الآثار يجتذب اهتمامي. وبدأت أكتشف شيئاً فشيئاً صلات لغتي العربية بما تسمى عادة أسرة اللغات السامية، أولاً عبر دراسة د. طه باقر (19121984) من تراثنا اللغوي القديم (1980) التي تتبع فيها أصول ما يسمى في العربية بالدخيل، فإذا هو عربي في الأصل في لغة أكد، تلك التي هي أم اللهجتين البابلية والآشورية. وجاءت بعد ذلك قراءات متفرقة لنصوص وملاحم مدن الوطن العربي المختلفة، نصوص إبلة وأجرت وتل العمارنة، بالإضافة إلى مدن إمبراطورية الأكدي السري كين (2350 ق.م) المشهور باسم سرجون الأكدي، مثل كش ونفر وسيبار إلخ. وكان الأكثر إثارة منذ البداية، بالنسبة لي على الأقل، ثلاثة أمور؛ الأول الكشف الذي توصل إليه قارئ اللغات القديمة آلفونسو آرتشي الذي عمل مع الإيطالي باولو ماتييه (1940) في حفر إبلة، من أن لغة هذه المدينة تزامن الأكدية القديمة، وتتشارك معها ومع لغات جنوبي الجزيرة العربية بسماتها الصرفية. الثاني، التشديد الذي خرجت به الندوة العالمية للدراسات الأوغاريتية في دمشق (1979) على أهمية اللغة العربية في دراسة ألواح أجرت (المسماة وفق تصويت عبري متعمد أوغاريت)، وجاء هذا بعد براهين عملية قدمها الباحث لؤي عجان حين استطاع إزالة غموض أكثر من عشرين كلمة في نص كنعاني بالاستعانة بالمعجم العربي. الثالث، السهولة التي تمكن بها الباحث د. عبداللطيف البرغوثي (19282002) من التعرف إلى 418 مفردة عربية معاصرة في قائمة من 1800 كلمة أعدها الباحث جي.سي.ل جبسون نقلاً عن أساطير كنعانية قديمة، وقول د. البرغوثي، إن المفردات التي تعرف إليها بسهولة هي مما لا تزال حية على ألسنتنا حتى اليوم، مثل أب، أخ، أخت، أكل، أمر، أسر، أرض، جمر.. إلخ، أما المفردات التي لم يتعرف إليها فلا شك أنها من المفردات المهجورة أو مما يمكن العثور عليه في معاجم العربية. وترسخت لدي قناعة بعربية نصوص تُطلق عليها تسميات لغات سامية مثل البابلية والآشورية والكنعانية والفرعونية والأمازيغية، مع إغفال أنها لهجات لسان واحد هو اللسان العربي، حين تواردت دراسات مهمة موسعة أخص منها بالذكر دراسات د. علي فهمي خشيم (19362011) حول لغة مصر القديمة في كتابه آلهة مصر العربية (1998)، واكتشافه مصادفة احتواء كتاب الموتى الموصوف بالفرعوني، والمكتوب بالخط الهيروغليفي (الخط المقدس) عدداً من الكلمات العربية المتعلقة بالتسبيح والدعاء ويوم الحساب، فقضى ثلاث سنوات في تتبع المراجع المتعلقة بلغة هذا الكتاب، وتوصل إلى أن اللغة المصرية القديمة ليست إلا فرعاً من اللغة العروبية الأم، ولها أوثق الصلات بالعربية في قديمها وحديثها. وأرجع د. خشيم سبب إبعاد المصرية القديمة عن أسرة اللغات العربية إلى استحواذ الأوروبيين على الدراسات المصرية، مما أدى إلى قراءة مقلوبة لهذه اللغة. فهم حين فكوا رموز الهيروغليفية وجهوها وجهة تتفق مع نمط كتابتهم وأصوات لغتهم، فقلبوا أشكال الرموز وعكسوها صورة وكتابة. هذه الرموز تمضي عادة من اليمين إلى اليسار، وأحياناً من أعلى إلى أسفل، فكان لابد لكي تسهل قراءتها من أن يعدلوا مسار الكتابة ليصبح من اليسار إلى اليمين، إضافة إلى أن نقل هذه الرموز إلى الحروف اللاتينية تسبب في إسقاط أصوات غير موجودة في اللاتينية مثل العين والحاء والخاء والقاف، فيستنبط كل باحث رمزاً من اللاتينية يختلف عما لدى الآخر، ومضوا إلى أبعد، فافترضوا أن المصرية القديمة تخلو من أصوات نجدها في العربية مثل الضاد والطاء، فوضعوا بدلاً منها الدال والتاء، كما افترضوا تحريكاً للصوامت لا دليل عليه. وتوسع د. خشيم في دراساته، فالتفت إلى اللغة الأمازيغية والأكدية، فدرس الأولى وقدم كتابين، الأول سفر العرب الأمازيغ، والثاني لسان العرب الأمازيغ، مقدماً براهين على أصولها العربية ومعجماً عربياً/بربرياً مقارناً، وتناول الثانية في كتابه الأكدية العربية.. معجم مقارن ومقدمة، مؤكداً على الوحدة بين الأكدية والعربية. على أن نشر نص أخذة كش، بوصفها أقدم نص أدبي، وتحقيقها والتقديم لها من قبل ألبير نقاش وحسني زينة في العام 1989، كان الأشد إثارة. فكلمات هذا النص الأكدي المكتوب على لوح طيني (رقيم) تشير إلى وحدة الجوهر اللغوي بين اللسانين العربي والأكدي، وتماثل الصلة بينهما مثل الصلة بين لغة الإنجليزي تشوسر واللغة الإنجليزية المعاصرة، ولكن المدهش أن هذه الصلة بعربيتنا المعاصرة تتخطى الأربعة آلاف عام، بينما صلة لغة نص لتشوسر باللغة الإنجليزية لا تتجاوز القرون الخمسة. هناك دراسات أخرى بالطبع، وكلها تشير إلى اتجاه لا تحيد عنه، ويتأكد يوماً بعد، وهو أن العربية أعرق مما كان يظن حتى الآن، ليس بوصفها لغة لسان واحد تعددت لهجاته فقط، وهو ما اجتهد من ذكرنا من باحثين في جلائه، بل بوصفها لغة تراث غارق في القدم، يتخطى ما يعتبر تراثاً عربياً محصوراً في الشعر الجاهلي وبضعة نقوش متناثرة، نبطية وثمودية ويمانية، إلى ملاحم ونصوص بابل وآشور، والمدن الكنعانية، أجرت وإبلة وطيبة.. إلخ. كل هذا التراث من المفترض في ضوء المكتشفات المحققة علمياً أن يندرج في إطار التراث العربي، ولا يظل غريباً عنه تحت تسميات ولدت في القرن التاسع عشر، انطلقت منذ البداية من افتراضين جانبهما الصواب؛ الأول أن لا صلة لهذا التراث بالعربية، والثاني أن لا صلة للعرب بمن كتبوا وأنشأوا وبنوا حضارات أكد وبابل وآشور وكنعان ومصر القديمة.

مشاركة :