بعد أكثر من ستة أشهر على تصويت البريطانيين لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي، لا يزال القلق يحوم حول مفاوضات البريكست، في ظل حكم المحكمة العليا برجوع رئيسة الوزراء البريطانية إلى البرلمان قبل بدء المحادثات الرسمية مع الجانب الأوروبي.. لكن الخبراء والمراقبون يرون أن الخيارات المتاحة أمام الحكومة البريطانية خلال الفترة المقبلة كبدائل لاقتصادها لن تكون هينة في كل الأحوال، بل سيكون «أحلاها مر». وأسعدت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي البعض من الجانبين بتعهدها الثلاثاء الماضي، بإخراج بريطانيا من السوق الأوروبية الموحدة، على العكس يرى مراقبون أن الجانبين ينتظرهما «أيام صعبة» في ظل مفاوضات طويلة حتى نهاية 2019، في الوقت الذي تحاول فيه ماي التلويح بمزيد من التخفيضات الضريبية لجذب مزيد من رؤوس الأموال. وكانت ماي قالت إن بريطانيا ستظل قادرة على التجارة مع أوروبا من خارج السوق الموحدة «لكننا سوف نتمتع بحرية عقد اتفاقيات تجارية مع مختلف دول العالم»، مضيفة: «سيكون لدينا الحرية لكي نتبنى معدلات ضريبية تنافسية وسياسات سوف تجذب أكبر شركات العالم وأكبر المستثمرين إلى بريطانيا»، مشيرة إلى أن الحكومة «سيكون لديها الحرية في تغيير أساس النموذج الاقتصادي لبريطانيا». وأشارت ماي إلى أن دولا مثل الصين والبرازيل ودول الخليج، أعربت عن اهتمامها بعقد اتفاقيات تجارية ثنائية مع بريطانيا، في حين بدأت المناقشات بالفعل حول مستقبل العلاقات التجارية مع أستراليا ونيوزيلندا والهند. وقالت رئيسة وزراء بريطانيا إن الرئيس الأميركي دونالد ترمب قال إن بريطانيا «على الخط الأول» بالنسبة لأي اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة. ومن المنتظر أن تواجه ماي معركة صعبة لكي تتوصل إلى اتفاق تجاري مناسب مع الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا منه. مخاوف داخلية ويقول المحللون إن المفاوضات مع الولايات المتحدة والصين، وهما أكبر اقتصادين في العالم، يمكن أن تكون أصعب مما تتوقعه ماي، وبخاصة في ظل وجود ترمب، الذي يصعب التنبؤ بمواقفه، والذي يهدد بقلب الأوضاع في التجارة العالمية. وكتب كيري براون، خبير السياسات الصينية والعلاقات الصينية البريطانية في كلية «كينغز كوليدج» في لندن، في مجلة «الدبلوماسي» البريطانية إن «بريطانيا الآن في موقف المتوسل، فهي تحتاج المساعدة والرعاية». وقال براون إن «الحديث العفوي وغير المسؤول من جانب بعض القادة البريطانيين، عن التوصل بسرعة إلى عقد اتفاقيات تجارة حرة مع الصينيين، بمجرد التحرر مع قيود الاتحاد الأوروبي، يظهر حالة انفصال عن الواقع ميؤوس منها.. الخروج من الاتحاد الأوروبي سيجعل بريطانيا الشريك الأضعف في العلاقة مع الصين، وسيجعل منها دولة ضعيفة وتعتمد على الآخرين». ومن المتوقع أن تحاول ماي التخفيف من شدة ضربة الخروج من الاتحاد الأوروبي، من خلال منح السلطات الإقليمية في اسكوتلندا المزيد من الصلاحيات المالية والإدارية، في حين يمكن القول إن رئيسة الوزراء نجحت، من خلال خطابها فقط، في جعل هذا الخيار (الدعوة إلى استفتاء ثان على الاستقلال) «أكثر احتمالا». قلق الشركاء في الوقت ذاته، أعربت شركات ألمانية عن قلقها بعد قرار المحكمة العليا في بريطانيا، وقال مدير قطاع التجارة الخارجية بالغرفة الألمانية للصناعة والتجارة فولكر تراير أمس الثلاثاء في بيان: «بسبب عدم الوضوح والقدرة على التنبؤ بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ستحجم الأوساط الاقتصادية عن الاستثمارات على نحو أقوى مما هو قائم حتى الآن». وأضاف أنه يتم مواجهة علامات استفهام جديدة حاليا في الطريق نحو الخروج المخطط له لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي بسبب هذا الحكم، مؤكدا بقوله: «كان من المهم للغاية بالنسبة للأوساط الاقتصادية على كلا جانبي القناة (الإنجليزية) أن توضح لهم الحكومة البريطانية حتى شهر مارس (آذار) القادم بما ترغبه». وقال أولريش هوبه، المدير التنفيذي لغرفة الصناعة والتجارة الألمانية - البريطانية في لندن، إنه على الرغم من أنه ليس هناك عواقب مباشرة «في الوقت الحالي»، فإن هناك تأثير بالفعل لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على خطط الشركات. متابعا بأنه «على المدى المتوسط، لن تنمو الاستثمارات الألمانية في المملكة المتحدة بالتأكيد مثلما هو وضعها حتى الآن». وأشار إلى أن أغلب الشركات الألمانية تتوقع بشكل مبدئي «خروجا قاسيا» من الاتحاد الأوروبي - دون وصول حر للسوق الداخلية للاتحاد الأوروبي، ولهذا السبب فإن التوقعات سلبية، وقال «إن هناك ترقبا ملحوظا». وأوضح أن قطاع صناعة السيارات بصفة خاصة يترقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بقلق، وقال: «بعد البريكست ستصبح الشركات الألمانية على مقربة من مواجهة المزيد من البيروقراطية». كما أشار إلى أن كبرى الشركات العالمية تعتمد على حرية التنقل بصفة خاصة، وقال: «إن السماح لأشخاص بالعمل لمدة بضعة شهور في مشروع في بريطانيا سوف يكون أصعب بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي»، لأن قواعد العمل الموحدة على مستوى أوروبا حاليا لن تكون متاحة في هذا الوقت. تحسن النمو رغم التوتر وبرغم القلق الألماني والأوروبي عامة من مفاوضات الخروج، أظهرت المؤشرات تحسنا في النمو مع بداية العام الجاري، حيث أظهر مسح أن منطقة اليورو بدأت عام 2017 بالحفاظ على نمو قوي سجلته في الآونة الأخيرة، في الوقت الذي يدعم فيه انخفاض العملة الطلبيات على السلع المصنعة في المنطقة، بينما لم يتسبب ارتفاع الأسعار في الإضرار بالطلب في قطاع الخدمات. وستكون تلك المؤشرات الدالة على استمرار الضغوط التضخمية محل ترحيب من صناع السياسات في البنك المركزي الأوروبي، الذي لم ينجح على مدى سنوات في دفع الأسعار للارتفاع بوتيرة سريعة بالدرجة التي يرغب فيها. وقال كريس ويليامسون كبير الاقتصاديين لدي «اي إتش إس ماركت» إن «بعض المؤشرات تظهر علامات مشجعة بشكل خاص. مؤشر التوظيف عند أعلى مستوياته منذ فبراير (شباط) 2008. في إشارة واضحة على أن الشركات تتوسع بوتيرة لم نشهدها منذ الأزمة المالية العالمية». وقال ويليامسون إنه حال حفاظ مؤشر مديري المشتريات على مستواه، فإنه سيشير إلى نمو اقتصادي بواقع 0.4 في المائة في الربع الأول من العام، بما يتماشى مع استطلاع أجرته «رويترز» ونشر في وقت سابق من هذا الشهر. وارتفعت الأسعار في دول منطقة اليورو البالغ عددها 19 دولة بنحو 1.1 في المائة في ديسمبر (كانون الأول)، مقارنة مع مستواها قبل عام. ويريد البنك المركزي الأوروبي تضخما دون اثنين في المائة؛ ولكن قرب هذا المستوى. واشترى البنك سندات حكومية لمنطقة اليورو بتريليونات اليوروات، وضخ سيولة في النظام المصرفي، بهدف تحفيز زيادات بالأسعار في الاقتصاد. الإسترليني يتذبذب وفي ردة فعل مباشرة، انخفض الجنيه الإسترليني وارتفع مؤشر فايننشال تايمز 100 البريطاني أمس الثلاثاء بعد قرار المحكمة العليا، وارتفع الإسترليني بشكل أولي بعدما أعطت الأجزاء الأولى من قرار المحكمة أعضاء البرلمان السلطة في اتخاذ القرار، وهو ما تأمل السوق بأن يؤدي إلى تدشين جهود رامية لخروج «أكثر سلاسة» من الاتحاد الأوروبي، والاحتفاظ بإمكانية دخول السوق الموحدة المربحة في الاتحاد.
مشاركة :