ما فتئ هذا التيار يجذب المزيد من الجمهور المتعطش للمعرفة والباحث عن الحقيقة، وفي هذه الجلسات يتبارى منظرو التيار والمروجون له في طرح رؤاهم بينما يتفاعل معهم الجمهور ويتداخل في طرح الأفكار والرؤى البديلة. العربمحمد حياوي [نُشرفي2017/01/25، العدد: 10523، ص(14)] ما فتئت التيارات الفكرية والرؤى المتضاربة أحيانا تتبلور وتتصدر المشهد بطريقة تبدو متناقضة تماما وأجواء الفوضى السياسية والأمنية الضاربة أطنابها في الحياة الثقافية العراقية، منذ زلزال الاحتلال في العام 2003 حتى يومنا هذا، وبقدر النكوص والإحباط المحتمل الذي يمكن ان يولّده تردي الحياة الاقتصادية وتبدّد ملامح الدولة الحامية للأفراد وانتشار الميليشيات والغياب شبه التام للقانون، بقدر ما تحدث مثل تلك الظروف والتداخلات والإحباطات ردّة فعل عكسية تدفع الناس إلى تبني بعض الأفكار والسلوكيات الفاعلة، التي ما كان لها أن تكون لولا الشعور الجمعي بخذلان الدولة وضرورة الانتظام، وفق تلك الرؤى والتيارات الجديدة، في محاولة لفهم ماهية الأوضاع والأسباب التي أدت إليها. وقد يندهش المتأمل لمدى الجرأة الفكرية والتوغل في استقراء اسباب الخلل الفكري والديني الذي أدى إلى كل هذه الكوارث، تلك الأسباب التي كانت حتّى وقت قصير بمثابة تابوهات محرمة ومسكوتا عنها، عندما كانت مفاهيم الخوف والبطش وعدم الاقتراب من “المقدّس” هي السائدة. يعتقد المفكر الراحل نصر حامد أبوزيد بأن الخوف من النقد والعجز عن مقارعة الحجة بالحجة دافع لمحاولة إسكاته بأي طريقة، وهي الاستراتيجية التي تعتمدها أغلب الحركات المتطرفة في العالم، سواء كانت دينية أو غيرها، الأمر الذي تطلب من القوى الواقعية المؤمنة بقوة الحياة والإيمان العقلاني انتهاج أساليب مختلفة وإعادة قراءة التأسيسات الفكرية للقوى المتطرفة لمقارعتها بالحجة والمنطق في محاولة للتوصل إلى نمط من التعايش السلمي معها بعيدا عن العنف. وانطلاقا من هذه الرؤية تأسست في بغداد قبل سنتين، من بين ما تأسس، مجموعة أو تيار ما يسمى “لمن يجرؤ على العقلانية”، على يد مجموعة من المثقفين والباحثين العراقيين لإيجاد قراءة بديلة في الطريق نحو دين إنساني، كما تقترح حيثيات تأسيسها، التي تعتقد أيضا بـ”أن الخروج التام من الظلمة إلى النور المنجز لم يتم، وأن مسار التغيير مازال يتجه من السيء إلى الأسوأ، وعوضا عن النقد المنهجي العقلاني للتراث والتقدّم إلى الأمام صار البديل نكوصا إلى الخلف وتراجعا حضاريا وأخلاقيا”. ويحاول تيار من يجرؤ على العقلانية منذ تأسيسه على يد الدكتور ميثم الحلو وآخرين، التصدي لمهمة إعادة قراءة النص الديني برؤية عصرية والبحث عن المعنى الحقيقي الموائم للحياة، وعلى الرغم من أن الفكرة بحد ذاتها لم تكن جديدة، فقد سبق وأن ظهرت حركات عديدة في مختلف المراحل والعصور، كان آخرها محاولات المفكر الراحل نصر حامد أبوزيد، الذي تأثر به منظرو التيار الجديد أنفسهم، إلّا أن الفارق بين التيار الأخير وما سبقه هو واقعيته المفرطة وبساطته وقدرته على طرح أفكاره للتداول في سوق المعرفة والجدل الجماهيري إن جاز التعبير، وذلك من خلال عقد الجلسات الأسبوعية على حدائق القشلة قرب شارع المتنبي في بغداد أيام الجمعات، وما فتئ هذا التيار يجذب المزيد من الجمهور المتعطش للمعرفة والباحث عن الحقيقة، وفي هذه الجلسات يتبارى منظرو التيار والمروجون له في طرح رؤاهم بينما يتفاعل معهم الجمهور ويتداخل في طرح الأفكار والرؤى البديلة، في ممارسة قلما نراها في مجتمع عربي أو سوق معرفة أو هايد بارك عربي. وقبل أيام احتفل مؤسسو التيار أو الجمعية، سمها ما شئت، بمناسبة الذكرى الثانية لتأسيسها، وكانت المفاجأة في حجم الإقبال الجماهيري الواسع ومدى التقبل والمناصرة التي وجدتها من جمهور عريض جلّه من المثقفين، الأمر الذي قد يحولها إلى ظاهرة متجلية من ظواهر الوعي الجمعي التي حتّمها الواقع العربي المزري. كاتب من العراق محمد حياوي :: مقالات أخرى لـ محمد حياوي لمن يجرؤ على العقلانية , 2017/01/25 مجلة الآداب عنقاء الورق, 2017/01/15 انتشار الكاتب, 2017/01/08 الكتاب والتقاليد الضارة , 2017/01/07 مأساة النمرود ومآسي الأجيال , 2016/12/11 أرشيف الكاتب
مشاركة :