كتب ألبرتو مينديس رائعته الوحيدة «أزهار عباد الشمس العمياء» ورحل قبل أن يعيش معها مجده الأدبي، وكأن موته امتداد لموضوع روايته «الذاكرة /الألم». «أزهار عباد الشمس العمياء» تعد من الروايات النادرة الخادعة، فهي من الأعمال القليلة جداً في تاريخ الأدب التي تغيب شخوصها - برغم تناميها الدرامى الواضح جداً - خلف إطارها السردي، وخلف محور الكتابة في العمل. فهذه الرواية عن شخصيات مهزومة ومأزومة - الجندي الأسير، الشاعر الهارب من الحياة، السجين الجمهوري المواجه لمجرم حرب، والراهب الذي يقع في حب زوجة يختبئ زوجها في خزانة طوال الوقت- يربط بينهم الألم والتذكر، وكأن مينديس يضعنا أمام مرآة ألمنا وتذكرنا. إن هذا الألم من عدم القدرة على التذكر والاشتهاء للتذكر، يُعد صلب «أزهار عباد الشمس العمياء»، تلك الأزهار الباحثة عن أرض وسط الخراب... «هل من المفروض أن تكون لحظة التنازل هي التي تعرف قطف الأزهار المولودة بشجيرة الحياة الشائكة؟ تساءلتُ بيني وبين نفسي: وهل يمكنني أن أتحول إلى الشجرة المتينة التي انتصبت بفعل التأرجح بين الخطايا وإعلانات الندم، بين الضلال والعودة إلى الطريق القويم، بين العجرفة والإهانات؟ أعترف أمامَك، أبانا، بعد كل هذه السنوات من فصول الشتاء وحالات الجفاف، أنني تتبعتُ كيف تتشكل داخلي براعم زهرة قادرة على أن تثمر». صدرت الرواية في ترجمة عربية بتوقيع عبد اللطيف البازي، ضمن إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت. ان الذاكرة ومديحها في هذا العمل الفريد، والكتابة عنها بهذه الرقة وهذا الألم يحيلنا إلى كتابة مارسيل بروست عنها، أو إلى كتابة كازانتزاكيس عنها. ولكن ما يجعل كتابة مينديس مختلفة هو التوغل في وصف الذاكرة والتعامل معها كأنها بحث فلسفي في حد ذاته بعيداً من شخوص وأحداث الرواية، وكأن الكتابة عن الذاكرة هي الرواية في حد ذاتها. إن هذه الحالة الملحة والمتكررة على مدار العمل حول الذاكرة تعد أمراً لافتاً... «أحاول أن أتذكر أبياتاً لكارسيلا سو لأُصلي على قبرك، إلينا، ولكنني نسيتُ الآن كل شيء بما في ذلك الذاكرة نفسها». نعم، كان موضوع الحرب ونتائجها مدخلاً للرواية وإطاراً عاماً لها، وكان من الطبيعي أن يكون الألم محوراً موازياً لمحور التذكر، ولكن حتى الحديث عن الحرب يخرج من رحم فلسفة مينديس عن التذكر/الذاكرة، فنجد ذاكرة الموتى تطغى على فعل الحرب نفسها، «وحدهم الموتى لم يكونوا مصدر خوف» ، «أن يقترب أحد من رجل عفن ولزج بسبب البراز والدم، أن يرفع رأسه، وأن يضع ماءً في شفتيه بوداعة، وأن يطعمه بملعقة حساء يمكن للأموات هضمه، وأن يقول له جملة مواساة، كل ذلك كان علامة على أن شيئاً إنسانياً ظلَّ حياً على رغم الخراب الذي سبَّبته الحرب» ... «لأن كل من مات في هذه الحرب، مهما كانت الجهة التي ينتمي إليها قد تم توظيفه لتمجيد من يقوم بالقتل. من دون أموات لن يكون هناك مجد ومن دون مجد سنكون فقط إزاء مهزومين». هذا التصور عن الحرب والخوف منها وأيضاً الاعتقاد بقيمتها، كما في الفصل الأول من الرواية، وهذا الحب الممنوع، أو هذا المثلث الغريب ما بين زوجة شيوعي وراهب وزوج حبيس خزانة ملابس طوال الفصل الأخير من الرواية، يعدان بألمهما وبذاكرتيهما، على طرف واحد من مأساة الألم والتذكر. ولعل هذه الثنائيات المتتالية طوال العمل والتي تتخللها الثنائية الأم «الألم والتذكر»، هو ما جعل من «أزهار عباد الشمس العمياء» رواية جديرة بالقراءة المتأنية، القراءة التي تبحث عما وراء السطور التي تقع عليها أعيننا. إنها القراءة المشتركة ما بين المؤلف والقارئ وافتراض عمل موازٍ للنص الذي بين أيدينا. ولعل مينديس نفسه كان يعي ذلك، وأشار إليه قائلاً على لسان الراوي: «إن نقد افتراضات بخصوص ما تفكر فيه الشخصية المحورية لقصتنا يعني اجتهاداً لتفسير الأحداث التي تأكدنا من وقوعها». ولعل هذا التلاعب بين الراوي والقارئ وشخوصه التي يتحدث عنها هو بمثابة حافز على إيقاظ الذاكرة وإيقاظ الألم لدى المتلقي عن تلك الفترة من تاريخنا البشري، وليس فقط عن تلك الحقبة من تاريخ إسبانيا. إن ألبرتو مينديس يدعونا في هذا العمل الجذاب إلى التخلي عن الأحكام القطعية والنهائية. يدعونا إلى الخوض في ماضينا وخطايانا بهدف البحث عن كل ما هو إنساني فقط في دواخلنا وكسر تلك العزلة المخيفة... «يتحدث في شكل خفي عن العزلة التي تجعل منه بقايا إنسان»... «عليه أن يلجأ إلى جمل صاغها آخرون ليتحدث عن نفسه وكأنه لا يجرؤ على استعمال عواطفه»... «أنا كائن كان وكائن سيكون، وكائن متعب الآن»... «لم يكن لديَّ وقت لأضع خططاً لحياتي لأن فظاعات أخرى جعلت مستقبلي معلقاً، ولكن تأكدي لو كنتُ قد وضعتُ تلك الخطط لكنتِ أنتِ العمود الفقري الذي يمنح التوازن لمشروعي». وأخيراً، فإن مينديس في «أزهار عباد الشمس العمياء» يضع الثوابت على المحك، ويضع الذاكرة/الألم في مواجهة الموت والحياة معاً... «قد يذهب الظن إلى أن ذكرياتي توجد على هامش الخوف، ورغم مجهودات والدي لكي لا أشارك في تلك الشعائر المتصلة بتوجسات مفروضة، كنت أنا أيضاً أخشى أن تتمزق الفقاعة التي تُخفي بداخلها حياتنا اليومية المألوفة، وأن يتمكن الخارج، خارجهم، من اختراق حناننا الصامت وسعادتنا المخبأة. أصبحت الصلوات تبدو لي كأنها لن تنتهي، ولم تعد الشعائر الدينية تولد لديَّ القلق المفروض أن يحس به كل مخطئ. رواية ألبرتو مينديس الوحيدة «أزهار عباد الشمس العمياء»، فاز فصل منها - قبل نشرها كاملة - بالجائزة الدولية للقصص «ماكس بوب». أزهار عباد الشمس العمياء
مشاركة :