الفنانة اللبنانية كريستين كتانة في معرضها المفاهيمي الجديد “استنشقني، المسني، وقبلني” بصالة “جانين ربيز” البيروتية مهمة التعبير عن نير تساؤلاتها الوجودية وشكوكها المُتشعبة إلى قطعة صابون تحمل اسم “حياة”، تستنفر الفنانة الوسائط كلها لتحيط بالأفكار التي تطرحها، استنفار قوامه البحث عن المعنى من خلال استخدام اللغة بطرق غير تقليدية. استنفار الوسائط في المعرض يعثر الزائر على شريط فيديو يصور يدين تغتسلان بصابون ملوث بنمل يختفي ويظهر بشكل متتال، لهذا العمل عنوان “كيف تكشف عن أسرار الحياة؟”، وفي هذا الفيديو يبدو الكاشف هو المكشوف والعكس صحيح، كما يستقيم الالتباس ببساطة فائقة: هل يغسل الصابون اليدين أم هو الصابون الذي يغتسل باليدين؟ ما هي القذارة المُراد الخلاص منها؟ النمل؟ أم اليدين؟ ربما هي اللغة المكرسّة؟ أم هي شيء آخر مازالت الفنانة في حالة بحث عنه؟ توجد أيضا في المعرض صور فوتوغرافية للنمل المنهمك بقضم الحلقات التي تحيط بأحرف واضحة المعالم، وتوجد صور لقطع صابون تحمل كل قطعة منها تاريخا خاصا بها. تقدم الفنانة معرضها في كلمات غير مقتضبة توضح اهتمامها الكبير بالتمعن في اللغة التي يتخاطب ويتواصل بها البشر، كما تؤكد على هشاشة تلك اللغة أمام اتساع المعنى، وتلاشيه أيضا في لحظات عديدة. ولعل أهم ما كتبت في هذه المقدمة، هي تلك الكلمات “أن ندرك ماهية شيء ما، وشخص ما أو نظام ما من خلال خلفيته التاريخية يعني أن نحدّ الإدراك ونشوه المعرفة، ربما من الأفضل أن نعتمد على اختبارنا الحسيّ المباشر لهذه العناصر حتى نصل إلى فهم أشمل”. وعلى الرغم من هذا التأكيد على كون موضوع المعرض هو اللغة والتوق إلى التعرف على موقعها في إرساء التواصل من خلال وظائف الحواس مجتمعة، تبدو أعمال كريستين كتانة في حقيقتها دعوات مستحيلة ومشرذمة لاحتضان الرغبة في إرساء معنى نهائي لأي شيء، لأي شخص ولأي نظام مُتبع في العالم إن كان ظاهرا أو مجهريا. النظام هو الفوضى غير المجدية، أما الفوضى “الجدية”، إذا صح التعبير، فهي تبدو في معظم أعمالها، السبيل إلى استقرار المعنى ومن ثم الرضوخ إليه كحالة دائمة التبدل والتحول. دعوة مستحيلة تطلق الفنانة عنوان “استنشقني، المسني، وقبلني” على معرضها، ولكنها في واقع الحال تحتفل باستحالة هذه الأفعال الثلاثة لعدم إمكانية الغرف من ذاكرة متواصلة ومتماسكة لم تتعرض لانتكاسات متتالية. أبطال هذه الاستحالة استحضرتهم كريستين كتانة من حياتها اليومية وهم ثلاثة: النمل المنتشر في حديقتها، ومكعبات صابون عريق صنّع واشتهر سابقا في لبنان ويحمل اسم صابون “حياة”، أما البطل الثالث فهو ذرات السكر الأبيض المنثور على طاولة مطبخها. صحيح أن الصابون الذي اختارته الفنانة له تاريخ عريق، ولكن هذا التاريخ بدا غير كاف لتكريس أي معنى من المعاني، كما التماس دقائق هذا التاريخ الذي بحثت عنه الفنانة وعثرت عليه بعد أن فقد أهميته ورمزيته الأصلية، بمعنى أن الفنانة وهبت صابون “حياة” حياة أخرى بين أرجاء صالة العرض. وفي معظم الأعمال، يظهر النمل وهو يتحلق حول فتافيت المعنى، أي حول حروف، وحول ذرات من السكر الأبيض الذي يشبه في أعمال عدة بودرة “النفتالين” القاتلة، هل يقتات النمل منها؟ هل يحاول أن يعيد ترتيب وجودها مع أحرف أخرى حتى يستقيم المعنى؟ الأمر ليس بهذه البساطة. كريستين كتانة تحل عبر آثارها الفنية وعواملها المفاهمية الرباط القائم ما بين اللغة والمعنى، ليذهب كل في حال سبيله الذاكرة التي تنطلق منها الفنانة هي ذاكرة غريقة، تغرق بصمت أبيض ينخرها نخرا فيرسم خطوط استفهام متداخلة تحيل إلى بعضها البعض، الذاكرة المأزومة التي تبدو الموضوع الرئيسي في أعمالها أكثر من السبيل المؤدي إليها، أي اللغة، هي ذاكرة عامة وخاصة على السواء، وهي نقطة مهمة في عملها. ذاكرة تبدو في الأعمال جميعها مُحملة بخيبات مُتعددة، وشكوك لا تحصى ولا تُعد، ولامبالاة لا تخلو من شعرية دامية وحادة الأطراف. ينسدل على إحدى طاولات المعرض نص طويل ليس من الضروري أن يقرأه زائر المعرض كله ليدرك حجم التشرذم الذي يحفر آثاره النمل المنهمك بالتعرف على كل ما يحيط به، كما يفعل البشر في مواجهتهم اليومية للتحولات المتسارعة وتبدل القيم وتغير تقنيات المعارف. استحالة “تلبية” الدعوة التي أطلقتها الفنانة تظهر كمن يودّ أن يدفع بمشاهد الأعمال إلى حدود التحولات المجازية للغة، ونحو التأمل بفوضى المعاني وبإمكانية تعبير اللغة عن عكس ما تشير إليه من معنى. تكشف كريستين كتانة عبر ذلك عن تعددية أبعاد هشاشة الحب والكراهية والذاكرة والتعاقب الزمني للأشياء، كما تحل الرباط القائم ما بين اللغة والمعنى، ليذهب كل في حال سبيله. في أحد النصوص المنتشرة في المعرض تكتب الفنانة كلمات تكاد أن تختصر المعرض كله، كلمات متأرجحة ما بين الطرافة والسخرية القاتمة “الحياة قطعة صابون.. تستحق أن تُستهلك حتى آخر ذرة”. :: اقرأ أيضاً رحيل سيد حجاب الذي نقل العامية المصرية إلى كل بيت عربي المناهضون للجنس في الأدب يتلذذون بقراءته سرا أبناء الأدهم رواية الأسطورة وجماليات الصحراء حكاية قرية مصرية معزولة يحكمها المال والشعوذة
مشاركة :