النحت ضيف مبجل في بيروت والحجر ذاكرة المكانتمدّ صالة "آرت سبيس، الحمرا" في العاصمة اللبنانية بيروت جسرا فنيا يرافق روادها من آخر سنة 2017 حتى بداية سنة 2018، أحضرت إليه مجموعة من الأعمال النحتية القيّمة لعدة فنانين/ نحاتين لبنانيين تختلف أعمالهم اختلافا كبيرا، إن من ناحية الأسلوب أو المادة المستخدمة أو الرؤيا الفنية.العرب ميموزا العراوي [نُشر في 2017/12/29، العدد: 10855، ص(17)]نحت معاصر يحكي الوجع اللبناني بيروت – يأتي المعرض النحتي بصالة “آرت سبيس، الحمرا” البيروتية برعاية وإشراف سيزار نمور صاحب الاهتمامات المتنوعة في الفن اللبناني منذ الخمسينات من القرن الماضي، وهو أيضا ناقد فني وصاحب مكتبة فنية باسم “ريكتو فيرسو”، وهو المؤسس/ المالك لدار نشر متخصصة بطباعة كتب ثمينة ومصوّرة بحرفية عالية عن الفن التشكيلي اللبناني بشكل خاص، وهو أيضا المدير المؤسس لمتحف “مقام” للفن الحديث والمعاصر. أصحاب الأعمال تستعرض صالة “آرت سبيس، الحمرا” عبر مجموعة من الأعمال النحتية المعاصرة أسماء فنانين لبنانيين مكرّسين تميّزوا بأعمالهم على الساحة اللبنانية والعالمية على السواء، ولم يقتصر عملهم الفني على النحت فقط، بل شمل أيضا الرسم والتجهيز. والعارضون هم: الفنان بسّام كريللوس، الذي يقدمّ عملين من مادة الألومينيوم وهما من ضمن مجموعة كبيرة جدا من أعمال بدأ بالعمل عليها منذ فترة غير قصيرة، وهي مبنية على ثيمات مترابطة حينا ومتناقضة حينا آخر تجمع ما بين فعل البناء والتدمير، ومنطق الذاكرة والنسيان لا سيما في ما يتعلق بالحرب اللبنانية ونتائجها المباشرة وغير المباشرة. وفي المعرض أعمال للفنان التشكيلي والنحات والشاعر رودي رحمة الذي قد لا يستسيغ أعماله الكثيرون بسبب كآبتها منقطعة النظير، ومزاعمها الروحانية المُتكلّفة، وله في الصالة عملان هما “أمل” و”الهدف”. في المقابل، وبالرغم من نفحة التفاؤل التي ميّزت العنوانين هذه المرة، غير أنهما لا يخرجان لا من قريب ولا من بعيد من سوداوية تريد أن تبدو عكس ذلك، ولن تستطيع. ويشارك أيضا في المعرض النحات نبيل بصبوص، وهو من عائلة احترفت النحت وساهمت بنشر اسم لبنان في العالم، وتأتي مساهمة بصبوص في هذا المعرض من خلال منحوتتين قد تكون أجملهما تلك التي تتمتع بانسيابية تتدفق بما يشبه الدوائر إلى وسط العمل.المعرض استطاع أن يجمع بين أساليب مختلفة لعدة فنانين دون أن يؤدي ذلك إلى الفوضى أو إلى إرهاق العين وفي الصالة أيضا عملان للفنان أنطوان بربيري، وهو فنان تميّز بمنحوتاته الضخمة التي تزيّن عددا من الشوارع اللبنانية عبر مراعاة جلية جدا من قبل الفنان بما يحيط بها، أي بالمنحوتات، من مشاهد طبيعية أو مدينيّة. أما الفنان التشكيلي شارل خوري، فقدّم منحوتتين عصريتين استخدم في تنفيذهما الخشب والألوان، وتذكّر منحوتاته تلك بأعماله الفنية التشكيلية، فهي كباقي منحوتاته تبدو وكأنها انبثقت مباشرة من سطوح لوحاته لكي تكتسب بعدا ثالثا. وقدّمت صالة “آرت سبيس” أيضا للفنان شاهين رفول عبر عملين عمد من خلالهما على إقامة حوار “حجري” ما بين الخشونة والنعومة. عملان يشدّان زائر المعرض إلى تحسّسهما بأطراف الأصابع. وفي المعرض أيضا عملان للفنان إبراهيم زود الذي تتميّز أعماله الخشبية بمحاولة لتظهير تحوّلات الخشب من ضمن العمل الواحد، أما الفنان رافي يداليان، وهو إضافة إلى كونه نحاتا فهو فنان تشكيلي استخدم في المعرض مادة “الألومينيوم” لينحت بها أشكالا غير تجريدية وتختلف كثيرا عن باقي الأعمال المعروضة. وأخيرا في المعرض عملان للفنان نبيل ريشاني الذي استخدم الخشب لنحت وصقل أعماله بأسلوب ومنطق فني يختلف تماما عن غيره من الفنانين الذين استخدموا الخشب في تكوين منحوتاتهم.منحوتات تتبدّل وتتحوّل وتكتسب أبعادا تقديم المعرض تشكّل زيارة هذا المعرض تجربة مميّزة، لأنها استطاعت أن تجمع أساليب مختلفة لعدة فنانين دون أن يؤدي ذلك إلى الفوضى أو إلى إرهاق العين، غير أنه ثمة ملاحظة يجدر ذكرها وهي أنه لو كانت الصالة، المجهزة تماما لاستقبال اللوحات التشكيلية والتجهيز الفني، مجهزة بالإضاءة المناسبة لعرض منحوتات لكانت الأعمال النحتية ظهرت “تحت ضوء” أفضل. فلا أحد يغفل عن الأهمية الفائقة للإضاءة وتوزيعها، وحدّتها أو خفوتها عندما يتعلّق الأمر بعرض المنحوتات، فهذه الأخيرة بإمكانها أن تتبدّل وتتحوّل وتكتسب أبعادا، لا بل أشكالا جديدة تحت هندسة ضوئية مختلفة. والأهم من ذلك، هو أن الإضاءة المهندسة خصيصا لإبراز عمل دون الآخر تساهم في إحيائه، وقد تكون هذه الخاصية من أكثر ما تحتاجه أي منحوتة لا يتخلّلها أي نوع من ثغرات تجعلها تتنفّس، لذلك بدت أعمال الفنان بسّام كيريللوس المنخورة بالثغرات الأقدر على تخطي ضعف الإضاءة. ويرافق هذا المعرض كُتيّب يجمع صورا للأعمال كافة مع نبذة عن الفنانين، والأهم من ذلك أنه يورّد نصين مقتضبين ومهمين للكاتب زياد سويدان ولسيزار نمور، “عرّاب” المعرض. ويعطي زياد سويدان أبعادا سردية للمنحوتات فيجعلها قادرة أن تخاطب مخيلة كل من لم يعتد على زيارة معارض للأعمال النحتية، أما سيزار نمور فشكّل نصه نوعا من المانيفستو صاغه دفاعا عن فن النحت الذي يلاقي وفقا لنصه “الكثير من التحديات”. ويشكّل هذا المعرض تأكيدا جديدا على أنّ فن النحت المعاصر صامد وفي تطوّر مستمر في زمن تتزايد فيه الأعمال الفنية التي تعتمد أساليب جديدة في التعبير، فتدخل فيها علوم التكنولوجيا المتطوّرة كالتجهيز والفيديو ديجيتال آرت وباقي الفنون الرقمية التي تحتاج في معظمها إلى من يُرفقها بنصوص توضيحية حتى تصل إلى عقل أو قلب المُشاهد. يبقى أن نترك لزائر المعرض الحرية في أن يقوم بجولته في أرجاء الصالة، ويشكّل مفاهيمه وقراءاته الخاصة للأعمال التي تنطق بكلام أبلغ من أي كلمة يُصار إلى وصفها بها.
مشاركة :