ليست الأرزة وحدها رمز لبنان وعنوان الجمالليست الأرزة هي الشجرة الوحيدة التي تمثل لبنان، فهناك المئات من أنواع الأشجار تستحق أن تُكتب عنها الآلاف من القصائد وتؤخذ لها صور فوتوغرافية فنية لا تتغنى بأوراقها وأغصانها بقدر ما تتغنى بحضورها النافذ الأثر في بيئتها الطبيعية التي لا تنفك تتعرض إلى شتى أنواع الأخطار. خلال هذا الشهر الحار من السنة، وفي هذه الرؤية النديّة قدمت صالة “أليس مغبغب” في العاصمة اللبنانية بيروت معرضا جمع المصوّرة وأستاذة الأنتروبولوجيا هدى قساطلي والشاعرة اللبنانية إيتيل عدنان تحت عنوان “كل شجرة أغنية”.العرب ميموزا العراوي [نُشر في 2017/07/28، العدد: 10705، ص(17)]الظلال رديف للطمأنينة بيروت – عشرون صورة فوتوغرافية تستوحي منها الشاعرة اللبنانية إيتيل عدنان كلماتها في المعرض الذي جمعها بالمصورة الفوتوغرافية هدى قساطلي بقاعة “أليس مغبغب” البيروتية، فتقول في إحدى القصائد “نحن ضمن ركام العالم/ والأشجار هذه/ دائما فتية/ رغم تجذرها/ وأكثر حرية/ في انتعاشها/ أكثر مما نحن عليه”. تكاد هذه القصيدة “الخفيفة الظل” تختصر جوّ الكتيّب الشعري بصوره الفنية الذي أصدرته الصالة ليرافق المعرض، إذ يتزامن العتيق مع الفتي، والربيعي مع الشتائي، كما تتواجد وتتحاور الصور الفوتوغرافية المعروضة وكلمات الشاعرة. تتوسط صالة العرض صورة فوتوغرافية كبيرة الحجم ترصد فيها الفنانة اللبنانية هدى قساطلي الأشجار المتجاورة ذاتها، ولكن عبر اختلاف الفصول الذي يستشعره الناظر ليس في الأشجار ذاتها فقط، بل في لون التربة وجوّ الفراغ المحيط بها ولون السماء. وليس هذا بغريب على عمل قساطلي التي لطالما قدمت أعمالا مميزة ليس فقط من ناحية اختيارها للمواضيع، بل بتأكيدها أن ما تصوره مرتبط ارتباطا وثيقا بما يحيط به وبما يتفاعل معه، لذلك تجيء صورها أشبه بدراسة علمية مُشبعة بنفحة فنية عالية النبرة. وتقول أليس مغبغب، صاحبة الصالة، حول صورة تتكون من ثماني صور “كان علينا أن نؤجل موعد إقامة هذا المعرض ريثما تتمكن هدى من التقاط صور للمشهد عبر اختلاف الفصول”، وتضيف قائلة “هناك دائما هاجس الزوال الذي يسكن ذهن وقلب هدى قساطلي، فهي غالبا ما تلتقط صورا للذي تتوقع أن يزول بفعل تغيرات المناخ أو بفعل الإنسان، ولا تخرج هذه الصور عن هذه المنظومة، إذ أنها تصطفي الأشجار المُهمشة والمُهددة أو تلك التي تحتضر”.الصور الفوتوغرافية للفنانة هدى قساطلي تأتي دائما أشبه بدراسة علمية مشبعة بنفحة فنية عالية النبرة تقنيا وجماليا يُذكر أن هدى قساطلي قدمت حتى الآن مجموعة من الكتب الفنية القيمة التي تُعد أيضا كتبا أكاديمية فيها دراسات موثقة عن تراث لبنان والمنطقة، ومن أهم تلك الكتب التي غالبا ما ترافق إصدارها بمعرض للصور الأصلية، نذكر “لبنان كمان وكمان”، و”الشاحنات المرسومة في لبنان اليوم” و”البيوت المقببة في شمال سوريا”. وتجيء قصائد الشاعرة اللبنانية المقيمة في فرنسا، إيتيل عدنان، لكي تتناغم كتابيا مع صور هدى قساطلي، فلا تعود المشاهد الطبيعية، أو الأشجار المرصودة في الصور، إلاّ بوابة دخول إلى عوالم قيد الزوال وعلى مستوى عال من الشعرية، وللشاعرة مؤلفات عديدة نذكر منها “سماء بلا سماء”، و”قصائد الزيزفون” و”باريس عندما تتعرى”. وفي الصالة قاعة عرض منفصلة تُعرض فيها أعمال فنية للشاعرة، وهي أعمال تعيدنا دائما إلى أجوائها الطفولية المُختصرة التي تومض بصمت وهدوء، لوحات بالأسود والأبيض يكثر فيها الفراغ وتظهر فيها أغصان لأشجار كخيالات صوفية، أو ذكرى بقيت بعد أن غاب المشهد كليا وبعيدا عن النظر، ففكرة الزوال ما انفكّت تراود الشاعرة وذلك منذ بدايتها الشعرية والفنية على حد السواء. يُمكن للمُشاهد أن يصنّف الصور الفوتوغرافية في مجموعتين منفصلتين وإن تداخلت عناصرها في صور دون أخرى، هناك المجموعة الأولى التي ترصد الأشجار في مشاهد مفتوحة تحيل الناظر إليها إلى ما يحيط بها من جبال أو قرى نائية أو ثلوج أو حقول، وهي صور تكاد تكون “بانورامية” تحول الأشجار في أسلوب التقاطها لها إلى مجموعة متحدة تواجه خطرا واحدا هو التدهور البيئي على اختلاف أنواعه. أما المجموعة الثانية التي قد تكون الأهم، فهي تلك التي تنضح بحيوية شديدة مردها براعة الفنانة في جمع تناقضات العناصر في صورة واحدة، فعلى سبيل المثال هناك صورة تتصارع فيها عناصر مختلفة كشكل الغيوم الزرقاء والداكنة مع انحناءات الأشجار المتراصة والمكسوة بالخضرة، أشجار تعاكس من ناحيتها انحياز تربة شبه ذهبية اللون تحتضن بضع غرسات أشجار يافعة نزولا إلى أسفل اللوحة الفوتوغرافية. ليس هذا فحسب، فهناك تناقض وتناغم بارزان ما بين حسية العناصر الظاهرة (خشونة التربة) والرقة الانسيابية للغيوم، وتتوسط انسيابية السماء وخشونة الأرض “عصبية” أوراق الأشجار العاتية والمشرئبة في وجه ريح كانت من دون شك قد ثابرت على تشكيل مسار غصونها لأكثر من شهر وشهر. وتضم المجموعة الثانية خمس صور فوتوغرافية يلعب فيها الظل دورا أساسيا في تشكيل جمالها الخارجي والداخلي على حد السواء، فالظلال في تلك الصور تبدو بعيدة كل البعد عن الهشاشة وكأنها جذور تتكمش في الأرض أو هي أشبه بمسطحات ثقيلة تمنع الأشجار المتباعدة عن بعضها البعض من الانزلاق، لا سيما تلك المنتصبة على المرتفعات المنحدرة بقوة إلى الأسفل. فلا غرابة في أن ترى الشاعرة في هذه الأشجار المتجذّرة الظلال طعم الطمأنينة في وسط جنون العالم، وتقول الشاعرة إيتيل عدنان في إحدى هذه الصور “لها خاصة حكمتها/ التي تأخذنا دائما إلى الحوار/ في الحب/ هي من أشكال الفردوس/ الذي يرغب أن يضمّنا”.
مشاركة :