وسط جدران متفحمة ملأتها ثقوب الرصاص، يقوم شبان بإزالة الركام والنفايات من شوارع الأسواق القديمة في مدينة حلب بإشراف تجار ينتظرون بفارغ الصبر فتح أبواب محالهم مجدداً. منذ سيطرة الجيش النظامي السوري قبل أكثر من شهر على كامل مدينة حلب، يضطر انطوان بقال (66 عاماً) يومياً الى اجتياز أكوام الركام والنفايات ليصل الى متجره لكيّ وبيع الأقمشة في سوق خايربك في حلب القديمة. ويقول انطوان وقد غزى الشيب شعره: «كنت أول من يدخل إلى خان خايربك، وسعدتُ لأنني وجدت محلّي صامداً برغم الأوساخ والأضرار الطفيفة». ويضيف: «شجعت أصدقائي التجار على العودة حتى اني أرسلتُ لهم صوراً لمحالهم. تحمّسوا جميعاً، وجاؤوا الواحد تلو الآخر». غيرت المعارك التي شهدتها مدينة حلب طوال اربع سنوات معالم المدينة الأثرية القديمة المدرجة على لائحة التراث العالمي للإنسانية بأسواقها وخاناتها، بعدما تحولت الى خط تماس بين طرفي النزاع. وحالف الحظ تجار خان خايربك، إحدى أشهر أسواق القماش في حلب القديمة، فبعكس أسواق أخرى دمرت في شكل شبه كامل، بقيت متاجرهم صامدة برغم الأضرار. ويقول انطوان: «كنا نسمع أصوات القذائف تتساقط هنا (...) لكن سعدتُ كثيراً حين وجدت انه بإمكاني إعادة إحياء المتجر. لا يوجد دمار كبير لكن نحتاج الى تنظيف وترميم المكان». وفي متجره المظلم، ينحني انطوان على الأرض ويرفع مفكرة قديمة كتب عليها فاتورة تعود الى العام 2011، ثم يتفقد آلة لكيّ القماش عله يتمكن من إصلاحها للعمل مجدداً. بعد عودته الى المحل، وجد انطوان صورة والده متسخة ومرمية على الأرض، سارع الى تنظيفها وإعادتها الى مكانها على الجدار. ينظر الى الصورة المعلقة ويقول «سأعيد ترتيب المحل لأجهزه لابني كي يعمل فيه، وكي يعلّق صورتي الى جانب صورة والدي، ويذكرني بالخير». في الخان الضيق ووسط قناطر اثرية تزين السوق، يتردد التجار تباعاً لتفقد محالهم ومنهم من بدأ مباشرة بأعمال التأهيل لإعادة الحياة الى سوق طالما تنوع زبائنها بين أهل المنطقة وآخرين من بلدان العالم. ينظر زكريا عزيزة (55 عاماً) الى صور لمتجره قبل الحرب على هاتفه الجوال، ويقول: «كان الخان مليئاً بالأقمشة والبضائع حتى انه كان يصعب التنقل بين المحال بسبب زحمة البضائع والزبائن». ويضيف: «اما اليوم، يصعب المشي بسبب الركام والقمامة». في ساحة الخان، اشجار توت وليمون يابسة والى جانبها بركة على الطراز التقليدي جف مائها، ويحيط بها من كل حدب وصوب خردة ونفايات واغصان شجر وكراس مكسرة وارائك متسخة. ومن على إحدى شرفات الطابق الثاني في الخان، يرمي شابان الركام والنفايات في ساحة صغيرة لتجميعها تمهيداً لنقلها. وقد طلبت محافظة حلب من التجار إخراج الركام من متاجرهم لكي تأتي الشاحنات لاحقاً وتقلها قبل بدء أعمال التنظيف والترميم بأمل أن تعود السوق الى سابق عهدها. وبرغم اعتقاده أن الأمر في حاجة الى عام على الأقل لتأهيل السوق يقول عزيزة: «لا بدّ من البداية، وها قد بدأنا». وتعود أسواق المدينة الاثرية الى نحو اربعة آلاف عام وتضم اكثر من أربعة آلاف محل و40 خاناً من الضرر والاحتراق. وفي العام 2013، أدرجتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) على قائمة المواقع العالمية المعرضة للخطر ويستريح مازن عزيزة (35 عاماً) على كنبة حمراء قديمة وجدها وسط ساحة السوق بعدما اضطر الى اجتياز أكوام كبيرة من الركام للوصول الى متجر عمه زكريا. يتفق الرجلان على التناوب للإشراف على أعمال التنظيف، فالسوق بالنسبة لمازن ليست مصدر رزق فقط بل انها مرتبطة بذكريات طفولته. ويقول: «منذ كنت في السادسة من عمري كنت ألعب هناك»، مشيراً الى إحدى ساحات الخان التي أقفل الركام مدخلها. ويضيف: «أشعر انه مثل بيت العائلة (...) ولذلك آتي يومياً منذ شهر لتفقد محلات العائلة الواحد تلو الآخر». تنساب أشعة الشمس من فوهات في سقف السوق لتضيء طريق التجار وبعض الزوار الذي أتوا لالتقاط الصور لمحال طالما زاروها واشتروا اقمشتها الملونة. عند مدخل الخان، يتفقد محمد نور ميمي (60 عاماً) متجره لبيع الآلات الموسيقية، يزيل الاقمشة عن ما بقي منها، ثم يخرج منه ليتفقد في الضوء دربكة (آلة ايقاع) سوداء اللون قد تكون لا زالت صالحة للعزف. احتفظ محمد طوال السنوات الماضية بمفتاح باب الخان الحديدي الضخم الذي اعتاد ان يفتحه كل صباح قبل الحرب. وقد حمله معه مسرعاً فور فتح الطريق الى المدينة القديمة برغم ان البوابة الكبيرة اقتلعت من مكانها. ويقول محمد: «لم نتمكن من الانتظار، قررنا تنظيف السوق والمحلات، سوف يأتي التجار حتى لو لشرب القهوة أو النرجيلة فقط، سواء عادت السوق الى العمل أو لا».
مشاركة :