لم يكن سارتر محظوظاً مع السينما. صحيح أن الفن السابع اقتبس بعضاً من أعماله. وأن ثمة من بين السينمائيين من لم يُخف تأثّره به. وصحيح أن أفلاماً تلفزيونية عديدة حُقّقت عنه وعن بعض جوانب حياته خلال السنوات التي تلت موته. لكن أية علاقة حقيقية له مع السينما لم توجد. أما الفرصة الوحيدة التي أتيحت له ذات يوم للوصول الى مثل تلك العلاقة فأُجهضت باكراً. «بسبب ثرثرته» كما سيقول المخرج الأميركي جون هستون، و «بسبب أن الأميركيين لم يفهموه تماماً وأرادوه أن يكتب فيلماً عاطفياً بل ميلودرامياً» كما سيقول أصدقاء سارتر الفرنسيون ومن بينهم إليزابيت رودنسكو. > كان المحور يومها فيلماً شاء هستون أن يحققه عن فرويد ورأى بالنظر الى سمعة سارتر في العالم، ولأنه، أي هستون نفسه، كان في العام 1946، قد أخرج للخشبة مسرحة سارتر «أبواب مغلقة»، أنه خير من يكتب السيناريو المطلوب. واتفقا على ذلك في لقاء بينهما عقد في العام 1958. في البداية لم يحبذ سارتر الفكرة. فهو بعد كل شيء لا يثق بالسينما الهوليوودية. لكنه إذ قيل له أن المكافأة لن تقل عن 25 ألف دولار، قرر خوض المغامرة. وهكذا في كانون الأول (ديسمبر) من العام نفسه أرسل الى هستون ملخصاً طويلاً للسيناريو. > راق الملخص للمخرج الأميركي الذي كان قد اعتاد أن يقتبس أعماله من أمهات القطع الأدبية العالمية، من ملفيل الى كونراد... واتفقا على تسليم السيناريو بعد شهور. وبالفعل التزم سارتر بالموعد المضروب ليسلم بعد شهور نصاً سينمائياً مشكلته أنه لو حُوّل الى فيلم كما هو سيكون طول الفيلم خمس ساعات على الأقل. أُخبر سارتر بهذا ودُعي الى لقاء توضيحي مع المخرج. وإذ حصل اللقاء بالفعل، بدا واضحاً على الفور أن الرجلين غير متفاهمين على الإطلاق. وأنهما لا يفهمان على بعضهما البعض. ولسوف يقول هستون لاحقاً أن الفيلسوف تحول فجأة الى ثرثار يرسل الكلمات كالشلال، ولا يفهم أبداً أن السينما غير الكلام المتواصل. والحقيقة أن سارتر طفق من فوره يقنع هستون بصواب السيناريو وحواراته الطويلة رافضاً أي تعديل. انتهت المقابلة دون أن يتفوه هستون بكلمة. لكنه اتصل بكاتبه المعتاد تشارلز كوفمان طالباً منه تعديل السيناريو واختصاره، ليتحول الى ذلك الفيلم الشهير الذي سُمّي «فرويد... شغف سرّي». وحين علم سارتر بالأمر طلب رفع اسمه عن عناوين الفيلم. أما النصّ فنشر بعد سنوات من رحيله. > تلك هي إذا حكاية فرصة سارتر الضائعة مع السينما... ولكن أين هو سارتر اليوم؟ وما الذي بقي من ذاك الذي كان أكبر وجه من وجوه الثقافة والفكر والفلسفة في القرن العشرين؟ هو الذي كان ملء السمع والبصر في فرنسا، ويمثل بالنسبة الى الكثيرين ضمير الفكر الفرنسي، بل ضمير كل حركة تقدمية في ذاك البلد كما في العالم؟ إن الرصد الدقيق والمتابع للحياة الفكرية في فرنسا يقول لنا إن سارتر يكاد اليوم أن يكون منسياً، على رغم مناسبة من هنا وأخرى من هناك تستعيده للحظات خاطفة الى واجهة الاهتمام، قبل أن تعود فرنسا لتغرق في اهتمامات أخرى. ولن ندخل هنا في الحديث عن العوامل المتعددة التي إضافة الى تراجع القيم والقضايا الكبرى على صعيد العالم كله، يمكنها أن تفسر ذلك التراجع الذي يطاول سمعة سارتر ومكانته، ويجعل الحياة الثقافية الفرنسية التي كانت مليئة بالصخب والحيوية طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، شبه خاوية اليوم، لأن الحياة التي كانت تصنع في الجامعات ودور النشر والمجلات الأدبية، وفي الشارع أيضاً، صارت اليوم تصنع في التلفزة. ولأن التلفزة هي ما هي عليه، كان من الطبيعي لخلفاء سارتر الحقيقيين والكبار ولا سيما من تلامذة فوكو وآلثوسير وديلوز وديريدا وغاتاري وحتى ريمون آرون، أن يبقوا بعيدين عن الأضواء، ليتألق تحت الكاشفات الضوئية مثقفون يطرحون أنفسهم ورثة للفكر الفرنسي كله، من دون أن يكون أي منهم مؤهلاً لذلك حقاً. > جان بول سارتر الذي ولد في 1905 ظل طوال القرن العشرين حياً في الحياة الثقافية الفرنسية، كما كان حال بيكاسو في الفن التشكيلي مثلاً، وظل الاسم الذي يقفز الى الذهن أول ما يجرى الحديث عن ثقافة فرنسية: كان روائياً وكاتباً مسرحياً وناقداً ومنظّراً في الأدب والنقد، لكنه كان قبل ذلك فيلسوفاً، عرّف فرنسا إلى الفلسفة الألمانية، وحاول المزاوجة بين الماركسية والوجودية، وربط نفسه أولاً وأخيراً بمفاهيم مثل «التقدم» و «الحداثة» و «الحرية» و «الالتزام»، وآمن بالعديد من القضايا العادلة انطلاقاً من إيمانه بالحرية والتقدم، ووقف ضد حرب الجزائر مطالباً بمنح الجزائر استقلالها، كما وقف الى جانب حركات الشبيبة ونزل الى الشارع متظاهراً حيناً، وبائعاً للصحف التقدمية حيناً آخر. ونزوله هذا جره أكثر من مرة الى أقسام الشرطة، وهو الذي لم يجرؤ حتى النازيون على اعتقاله حين كانت مسرحياته المعادية لهم (مثل «الذباب») تقدم على رغم أنوفهم على المسارح الفرنسية خلال الاحتلال، فأسروه لفترة كجندي لكنهم لم يمسّوه ككاتب. هذه الحيوية السارترية كلها تجلت في كتب فلسفية مثل «الوجود والعدم» و «تعالي الأنا» و «الوجودية مذهب إنساني» و «نقد العقل الجدلي»، وهي كتبه الفلسفية الأساسية. بيد أن سارتر لم يكتف بتوضيح فكره الفلسفي في كتبه «التقنية» الفلسفية الخالصة، بل عبّر عنه في نصوصه الإبداعية الكثيرة التي ليس من الظلم لها ولسارتر أن نقول ان الإبداع فيها انما استخدم من جانب سارتر للتعبير عن قضايا فكرية وإنسانية. وهو ما أنكر هذا، أبداً، على أي حال، بل كان توكيده محور صراعه الفكري مع البير كامو. كما كانت من أبرز روايات سارتر «الغثيان» وهي واحدة من أولى رواياته كتبها تحت تأثير فكر هوسرل الفينومينولوجي - الوجودي. اما من بين مسرحياته، فيمكن التوقف طويلاً عند نصوص نشرت ومثلت مرات عدة على خشبات المسارح ويمكن لدراستها دراسة متأنية اليوم أن تكشف كم أن سارتر (كما توفيق الحكيم في حياتنا الأدبية العربية) استخدم المسرح (مكان الحوار المثالي، ومكان المجابهة المباشرة واليومية مع الجمهور) للتعبير عن أفكاره ومصادر قلقه. ويتجلى هذا في «موتى بلا قبور» (1946) التي تعالج مسألة السلطة ولجوئها الى التعذيب، كما في «المومس الفاضلة» التي تعالج قضية العنصرية، وفي «الأيدي القذرة» التي تتحدث عن إمكان غوص المرء في السياسة من دون أن يلوث يديه، كما في «الشيطان والإله الطيب» التي يعبر فيها سارتر عن مشكلة الحرية من وجهة فلسفية بحتة، وفي «الذباب» وغيرها. ومن الكتب المهمة الأخرى التي يمكن ذكرها اليوم في مجال الحديث عن سارتر كتابه المبكر عن جان جينيه، ورباعية «دروب الحرية» وسلسلة «مواقف» و «الحرب الغريبة» وغيرها. > بيد أن بين أهم ما يبقى من سارتر شخصيته نفسها. هو الذي لم يكفّ لحظة عن التأمل والعمل، والتغلب والبحث عن الحرية، ومواكبة الجديد كما مواكبة الباحثين عن الجديد، مسخراً وقته وفكره، بخاصة مجلته الشهرية الشهيرة «الأزمنة الحديثة» للنضال في سبيل الحرية والقدم، واحياناً لتبرير تقلّباته. ولئن كان المثقفون العرب قد تساءلوا كثيراً، ولا سيما خلال زيارة سارتر الشهيرة الى القاهرة أواخر الستينات، عن السبب الذي يجعله يقف الى جانب كافة القضايا العادلة، ولكن ليس الى جانب القضية الفلسطينية، فإن العدد الشهير الذي أصدره من «الأزمنة الحديثة» في الستينات حول الحوار الفلسطيني - الإسرائيلي، أتى على شكل جواب يعدّل الميزان بعض الشيء. > مهما يكن، فما يمكن قوله اليوم ان السارترية نفسها كفعل نضال يمارسه المثقفون بالنزول الى الشارع ميدانياً، هي التي تراجعت، بعد ان أصبح الشارع ومن يمثلونه أكثر عنفاً من أن يمكنهم اجتذاب المثقفين، وما حصل هو تحول بعض المثقفين الى معلقين تلفزيونيين، أو - في أحسن الأحوال - الى فاعلي خير يوقّعون البيانات، أو يدافعون من على شاشة التلفزة، ليس عن القضايا العادلة، بل عن «دفاعهم - هم - عن - القضايا - العادلة» ومع هذا يبقى من سارتر كتاباته التي بانضمام سيناريو «فرويد» اليه تصبح حقاً من ذلك الصنف الذي يأخذ من كل شيء طرفاً.
مشاركة :