القوانين الأوروبية تجرم الحديث عن إنكار الهولوكوست احتراما لليهودية، بينما لا تمارس الاحترام ذاته في المعتقد الإسلامي في ساحة متحف اللوفر الباريسي كنت أتحدث مع رجل أمن فرنسي من أصول عربية. دار الحديث عن قضية قرار النظام الفرنسي في منع الحجاب في المدارس والنقاب في الأماكن العامة، وكيفية التعامل مع هذه الحالات. قال الكثير هنا تفاجأ بالقرار لكونه يمس المعتقدات التي تكفلت فرنسا بحمايتها على أراضيها. أضاف أن بعض رجال الأمن إذا لمح منقبة يدير لها ظهره كأن لم يرها عدا حالات الاشتباه أو البحث عن مطلوب. دهشة ذلك القرار التي أصابت الكثير، في حينه، كان لها ما يبررها لأنه صادر من فرنسا راعية العلمانية والانفتاح على الآخر، ثم هي تمارس تقييد الحريات، خاصة في قضية كالملبس. وإذا سلمنا بالحاجة الأمنية لكشف الوجه فكيف نسلم في قضية منع المحجبات من المؤسسات الفرنسية أو التعليم؟ وبغض النظر، عندنا كمسلمين، عن الحكم الشرعي في مسألة الحجاب، وهل هو غطاء الرأس أو الوجه، إلا أنه يبقى حرية شخصية وبالأخص في بلد كفرنسا مضرب المثل في الحريات و(صيانة العلمانية). اليوم تطالعنا الأخبار عن الرئيس الأميركي دونالد ترمب وقراره حديث الساعة في منع مواطني سبع دول شرق أوسطية من دخول بلاده. كنا سمعنا وشاهدنا تصاريحه العنصرية أثناء الانتخابات، إلا أن الكثير من المراقبين كانوا يرون أن تلك مجرد جعجعة انتخابية يعقبها فرمته عقلية وسلوكية نحو فن الدبلوماسية عند وصول الرئيس المنتخب للبيت الأبيض. صحيح أن التطرف مرتبط ذهنيا بالتدين الفكري الذي ينجم عنه التطرف الحركي الإرهابي العنيف، غير أن التطرف ليس قاصرا على الأفكار الدينية، بل يمتد أيضا لأساطنة الفكر العلماني والديمقراطي كما تشهد الوقائع والأحداث بذلك. إن التطرف باسم الرب لا يقل سوءا عن التطرف باسم الإنسان أو البلد أو النظام، والتطرف هو التطرف حيث يحل في الفكر الديني أو أي فكر أيديولوجي كان حين يعمد على إقصاء الآخرين وتقييد حرياتهم وفرض المعتقد والملبس أو حرمان شعوب من دخول بلاد لطلب العلم أو الرزق، لا لسبب شخصي، بل لجريرة غيرهم أو لوقوع بلدانهم في صراعات وحروب كانت أميركا نفسها سببا لوقوع بعضها. التطرف العلماني لا يقل خطورة عن التطرف الديني، وذلك حين يفرض النموذج الواحد بدلا من التعددية، حين يرغم الناس على التفكير والحديث واللبس بنفس الطريقة التي تريدها السلطة المقدسة، سواء كان ذلك في الدول الغربية الديمقراطية أو في الدولة الداعشية الإرهابية. وإذا كان التطرف الديني في جانب المرأة يمارس غلوه في إجبارها على طمس هويتها وفرض لباسها وهضم حقوقها وإلزامها بالبقاء في بيتها، فإن التطرف العلماني يمارس عليها نفس الغلو من خلال تخييرها بلباس معين أو لزوم بيتها إذا لم تفعل مما يعدو هضما صريحا لحقها فيما تعتقده دينا أو هوية خاصة بها. اللافت هنا أن القوانين الأوروبية تجرم الحديث عن إنكار الهولوكوست احتراما لليهودية، بينما لا تمارس الاحترام ذاته في المعتقد الإسلامي من خلال حرمان المحجبة من التعليم في فرنسا، والسماح للرسوم المسيئة للرسول الكريم في الدنمارك، وغيرها ومنع المآذن في سويسرا، وهو ما يسمى بـالحرية البيضاء التي تمنح للإنسان الأبيض فقط، بينما العدالة والمساواة تقتضي أن تكون حرية ملونة تشمل كل ألوان البشر ومكوناتهم العرقية والفكرية والثقافية، بحسب المفهوم العميق لمفهوم الحرية التي تنادي بها العلمانية والديمقراطية. ما نشاهده الآن في المشهد الغربي هو اختلال في العدالة وتحولها إلى معنى من معاني القمع والإقصاء لفرض نسقية واحدة في الفكر والثقافة، وإقصاء المخالف للتدميج وإلغاء التنوع وطمس التعددية، وهذا أمر اعتاد الناس مشاهدته ومعايشة واقعه في العالم الثالث وليس في العالم المتحضر رائد الحرية والعدالة والمساواة والتعددية الثقافية. ما الذي حصل للعالم المتحضر، عالم الرمزية والنموذج، هل شُدّ الحبل حتى انقطع؟ نقلا عن الوطن
مشاركة :