لقراءة الجزء الأول من هذه المادة اضغط الهرب من ترامب إذا كانت الصومعة في كانساس ليست بعيدةً أو خاصةً بما فيه الكفاية، فهناك خيارٌ آخر. في الأيام السبعة الأولى بعد انتخاب دونالد ترامب، سجَل 13401 شخص أميركي بياناتهم مع سلطات الهجرة في نيوزيلندا، كأول خطوةٍ رسمية نحو السعي للحصول على محل إقامة آخر، وهذه النسبة أكثر من سبعة عشر أضعاف المعدل المعتاد. وكتبت صحيفة "نيوزيلاند هيرالد" عن هذه الزيادة تحت عنوان "نهاية العالم على يد ترامب". في الواقع، بدأ هذا التدفق قبل فوز ترامب بفترة. ففي الأشهر العشرة الأولى من عام 2016، اشترى الأجانب ما يقرب من 1400 ميل مربع من الأراضي في نيوزيلندا، وهي مساحة أكثر بأربعة أضعاف مما اشتروه في الفترة نفسها من العام السابق وفقاً للإحصاءات الحكومية. وجاء المشترون الأميركيون في المرتبة الثانية بعد الأستراليين. ولا تقوم الحكومة الأمريكية بحصر أعداد الأميركيين الذين يملكون منازل ثانية أو ثالثة في الخارج. وبقدر ما استمالت سويسرا الأميركيين ووعدتهم بالسرية، وكذلك أوروغواي التي أغرتهم بالمصارف الخاصة، توفر نيوزيلندا الأمن لهم، وتوفر عليهم مسافة الانتقال كذلك. وفي السنوات الست الماضية، حصل ما يقرب من ألف أجنبي على الإقامة هناك في إطار البرامج التي توفر أنواع معينة من الاستثمار بمبلغ لا يقل عن مليون دولار. قاعة التدريب على إطلاق النار في سكن الناجين جاك ماثيوز، وهو أمريكي ورئيس إذاعة "MediaWorks"، وهي واحدة من أكبر الشبكات الإذاعية في نيوزيلندا، قال "أنا أفكر، بحسب ما يدور في أذهان الناس، بصراحة، أنَّه إذا كان العالم على وشك السقوط، فإنَ نيوزيلندا، وهي دولة من بلدان العالم الأول، تتمتع تماماً بالاكتفاء الذاتي من حيث الطاقة والمياه والغذاء. ربما تتدهور الحياة بها، لكنها لن تنهار". وكشخصٍ ينظر للسياسة الأميركية من مسافةٍ بعيدة، أضاف ماثيوز قائلاً:" الفرق بين نيوزيلندا والولايات المتحدة، إلى حدٍ كبير، هو أن الناس الذين يختلفون مع بعضهم البعض لا يزال يمكنهم التحدث إلى بعضهم البعض حول الموضوع هنا في نيوزيلندا. إنَّه مكان صغيرٌ للغاية، وليست هناك حاجة للسرية. يتعين على الناس في الواقع أن يكونوا على درجةٍ من الكياسة والتحضر". يستغرق السفر لأوكلاند من سان فرانسيسكو 13 ساعة بالطائرة. في أوائل ديسمبر/كانون الأول، بداية الصيف في نيوزيلندا بدت السماء زرقاء، ودرجات الحرارة بالفهرنهايت في منتصف السبعينات، ولا توجد رطوبة. تمتد سلسلة من الجزر من أعلى لأسفل مثل المسافة بين ولايتي ماين وفلوريدا تقريباً، ويقطنها أعداد من السكان تعادل نصف سكان مدينة نيويورك. ويفوق عدد الأغنام عدد الأشخاص بنسبة سبعة إلى واحد. وفي التصنيف العالمي، تأتي نيوزيلندا في المراكز العشرة الأولى من حيث الديمقراطية، والحكومة النظيفة، والأمن. (كانت آخر مواجهة لها مع الإرهاب في عام 1985، عندما قصف جواسيس فرنسيين سفينة غرينبيس). وفي تقريرٍ حديث للبنك الدولي، حلت نيوزيلندا محل سنغافورة كأفضل بلدٍ في العالم لممارسة الأعمال التجارية. في صباح اليوم التالي، فُوجئ غراهام وول، وكيل عقارات مرح متخصص في ما تصفه مهنته بالعملاء ذوي الرصيد المالي الضخم "H.N.W.I". وول، الذي من بين عملائه بيتر تيل، الملياردير والمستثمر الرأسمالي، فوجئ عندما أبلغه الأميركيون بأنهم جاءوا على وجه التحديد بسبب بُعد بلاده عن أميركا. وقال وول أثناء التجول في المدينة في سيارته المرسيدس المكشوفة: "اعتاد سكان نيوزيلندا على الحديث عن طغيان المسافة. والآن طغيان المسافة هو موردنا الأكبر". قبل رحلتي، كنت قد تساءلت عما إذا كنت ذاهباً إلى قضاء المزيد من الوقت في الغرف المحصنة الفاخرة تحت الأرض. لكن بيتر كامبل، العضو المنتدب لشركة "Triple Star Management"، وهي شركة إنشاءات نيوزيلندية، قال لي إنَّه، بشكلٍ عام، وبمجرد وصول زبائنه الأمريكيين، رأوا أنَ الملاجئ الأرضية لا مبرر لها. وأضاف قائلاً: "ليس الأمر أنَك بحاجة إلى بناء ملجأٍ تحت حديقة منزلك الأمامية، لأنك على بعد بضعة آلاف من الأميال عن البيت الأبيض". الأميركيون لديهم طلباتٌ أخرى، كما قال "بالتأكيد، مهابط طائرات الهليكوبتر مساحتها كبيرة. يمكنك أن تطير بطائرةٍ خاصة إلى كوينزتاون أو واناكا، وبعد ذلك يمكنك أن تستقل طائرة هليكوبتر، لتأخذك وتهبط بك في منزلك أو مكانك الخاص". سعى العملاء الأمريكيون أيضاً لطلب مشورةٍ استراتيجية، إذ قال كامبل إنَّهم "يسألون عن الأماكن في نيوزيلندا التي لن تتضرر على المدى الطويل من ارتفاع منسوب مياه البحر". ولَّدَ هذا الإقبال الخارجي المتزايد على العقارات في نيوزيلندا رد فعلٍ عكسي؛ إذ تعارض منظمة "The Campaign Against Foreign Control of Aotearoa" البيع للأجانب (أوتياروا هي الاسم الماوري لنيوزيلندا، والماوري هم السكان الأصليون لنيوزيلندا). بالتحديد، أثار اهتمام المُجهِّزين الأمريكيين بنيوزيلندا الاستياء. وفي مناقشةٍ حول نيوزيلندا على موقعٍ إلكتروني ينتمي لحركة النجاة اسمه "the Modern Survivalist"، كتب أحد المعلقين مخاطباً الأميركيين: "أيها الأميركيون، ضعوا هذا في أذهانكم: أوتياروا (نيوزيلندا) ليست ملاذكم الصغير الأخير والآمن". اشترى مؤخراً مدير صندوق استثمار أميركي في الأربعينات من عمره، طويل القامة، وداكن البشرة، ورياضي، منزلين في نيوزيلندا، وحصل على الإقامة المحلية. ووافق على أن يتحدث بما يجول في خاطره، بشرط عدم نشر اسمه. وقال أثناء احتساء القهوة على الساحل الشرقي، إنَّه يتوقع أنَ أمريكا ستواجه ما لا يقل عن عشر سنوات من الاضطراب السياسي، بما في ذلك التوتر العنصري والاستقطاب، وارتفاع أعمار السكان على نحوٍ مضطرد. وقال: "لقد تحولت البلاد إلى منطقة نيويورك، ومنطقة كاليفورنيا، وفي الوسط يختلف الجميع بصورةٍ عشوائية". وأعرب عن قلقه من أنَ الاقتصاد سيعاني إذا اندفعت واشنطن لتمويل الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية للأشخاص المحتاجين، وأشار قائلاً: "هل تتخلف عن هذا الالتزام؟ أم هل ستطبع المزيد من النقود لتعطيها لهم؟ ماذا سيكون تأثير القيام بذلك على قيمة الدولار؟ إنَّها ليست مشكلة تخص العام المقبل، وليست أيضاً مشكلةً تبعُد عنا خمسين عاماً". نيوزيلندا وجهة الناجين سمعة نيوزيلندا في جذب المتشائمين مشهورةً جداً في دائرة مدير صناديق التحوط، لذلك يُفضِل تمييز نفسه عن الوافدين السابقين عليه. وقال ضاحكاً: "الأمر لم يعد يتعلق بحفنة من المهووسين القلقين بشأن نهاية العالم. ما لم أكن واحداً من أولئك المهووسين". كل عام منذ عام 1947، دورية "Bulletin of the Atomic Scientists"، وهي مجلة أسسها أعضاء مشروع مانهاتن، تجمع مجموعة من الحائزين على جائزة نوبل وشخصياتٍ بارزة أخرى لتحديث ساعة يوم القيامة، وهي مقياسٌ رمزي لخطر تدمير الحضارة. وفي عام 1991، أثناء انتهاء الحرب الباردة، ضبط العلماء الساعة على أكثر مواضعها أماناً، سبعة عشر دقيقة قبل "منتصف الليل". ومنذ ذلك الحين، واتجاه الساعة مشؤوم. ففي يناير/كانون الثاني عام 2016، بعد زيادة التوترات العسكرية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبعد سنة 2015 الأكثر حرارة على كوكب الأرض على الإطلاق، أوقفت المجلة عقارب الساعة عند ثلاث دقائق قبل منتصف الليل، وهو نفس المستوى الذي أوقفت عنده عقارب الساعة في ذروة الحرب الباردة. وفي نوفمبر/تشرين الثاني بعد انتخاب ترامب، اجتمع مجلس المجلة مرة أخرى لإجراء المشاورات السنوية السرية لاتخاذ القرار بشأن تحريك عقارب "ساعة القيامة". وإذا اختار المجلس تحريك عقارب الساعة دقيقة واحدة للأمام، سوف يشير ذلك إلى مستوى من الإنذار لم نشهده منذ عام 1953، بعد أول اختبار أجرته أميركا للقنبلة الهيدروجينية. الخوف من وقوع كارثة هو أمرٌ صحي إذا كان سيحفز على اتخاذ إجراءات لمنع وقوعها. ولكن جاهزية النخبة ليست خطوةً باتجاه منع الكارثة؛ إنَها نوعٌ من الانسحاب. لا يزال يمثل العمل الخيري في أميركا ثلاثة أضعاف العمل الخيري في المملكة المتحدة، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن تحوم حوله الآن بادرة استسلام من خلال سحب هادىء للاستثمارات من قبل بعض أنجح وأقوى المستثمرين الأميركيين. وبينما يواجه البعض أدلةً على وجود ضعف في المشروع الأميركي، وفي المؤسسات والأعراف التي استفادوا منها، يسمحون لأنفسهم بتوقع الفشل. إنَه نوعٌ من اليأس مطليٌ بالذهب. كيف عززت التكنولوجيا الشعور بالمخاطر كما لاحظ ستيف هوفمان، الرئيس التنفيذي الحالي لموقع "Reddit"، التكنولوجيا جعلتنا أكثر يقظة تجاه المخاطر، ولكنها أيضاً جعلتنا أكثر ذعراً؛ لقد جعلت فكرة الانعزال مغرية، وقطع صلتنا بالمعارضين، وتحصين أنفسنا ضد مخاوفنا، بدلاً من مواجهة مصادر هذه المخاوف. واستدعى جاستن كان، المستثمر في مجال التكنولوجيا، والذي كان قد بذل جهداً ضعيفاً لتخزين المواد الغذائية، مكالمةً هاتفية جاءته مؤخراً من صديقٍ له في صناديق التحوط. وقال: "كان يقول لي إنَّه يجب أن نشتري أرضاً في نيوزيلندا على سبيل الاحتياط. وكأنه يتساءل: كم في المئة يمكن أن يكون ترامب في الواقع ديكتاتور فاشي؟ ربما تكون النسبة منخفضة، ولكن فائدة وجود ملاذ للهروب عالية جداً". وهناك طرقٌ أخرى لاستيعاب هموم عصرنا. إذ تقول إيلي كابلان، المديرة التنفيذية لمشروع الصحة الرقمية الناشىء "Neurotrack" قائلةً: "لو كان لدي مليار دولار، لما اشتريت ملجأً تحت الأرض. كنت أعدت الاستثمار في المجتمع المدني والابتكار المدني. وجهة نظري هو أن تكتشف طرقاً أكثر ذكاءً للتأكد من أن شيئا فظيعاً لن يحدث". إيلي، التي كانت تعمل في البيت الأبيض في عهد بيل كلينتون، شَعرت بالفزع إزاء فوز ترامب، لكنها قالت إنَّ فوزه حفزها على التصرف بطريقةٍ مختلفة، وأضافت: "حتى في أعمق حالات خوفي، أقول: اتحادنا أقوى من هذا". هذه الرؤية، في النهاية، مسألة إيمان وقناعة بأنَّ حتى المؤسسات السياسية المتدهورة هي أفضل الأدوات لإدارة الإرادة الجماعية، وتشكيل التوافق الهش والحفاظ عليه. الاعتقاد بذلك هو في حد ذاته خيار. التقيت سريعاً بحكيم وادي السيليكون، وقطب التكنولوجيا الأميركية، ستيوارت براند، المؤلف ورائد الأعمال الذي يرجع ستيف جوبز الفضل له في إلهامه. في الستينات والسبعينات، جذبت سلسلسة أعداد "Whole Earth Catalog" التي أصدرها براند، مجموعة من المتابعين المتحمسين لهذا الخليط من التناول غير التقليدي للتكنولوجيا وتقديم المشورة التقنية. (شعارها كان: "نحن كالآلهة... وربما نكون جيدون في هذا المنصب"). قال براند إنَّه اكتشف حركة الناجون في السبعينات، ولكنها لم تدم طويلاً. وأضاف قائلاً: "عموماً، أرى أنَ فكرة "أوه، يا إلهي، العالم كله يوشك على الانهيار" هي فكرة غريبة". براند، ذو السبعة وسبعين عاماً، والذي يعيش على زورق جرار في مدينة سوساليتو الأميركية، أقل اندهاشاً بعلامات ضعف وتقاعس العالم مقارنةً بأمثلة ونماذج الصمود فيه. ففي العقد الماضي، نجا العالم، دون اللجوء إلى العنف؛ إذ خرج العالم من أسوأ أزمة مالية منذ الكساد العظيم، وواجه الإيبولا، قبل أن تنتشر على نطاقٍ أوسع وتسبب كارثة. وفي اليابان، نجت البلاد من تسونامي، ومن التسرُّب الإشعاعي من أحد المفاعلات النووية. ويرى براند أنَ المخاطر تكمن في الهروب من الواقع. وبانسحاب الأمريكيين إلى دوائر أصغر، يعرضون للخطر "الدائرة الأكبر للتعاطف" حسب قوله، وهي البحث عن حلول للمشاكل المشتركة. وأضاف قائلاً: "السؤال السهل هو، كيف أحمي نفسي وممتلكاتي؟ بينما السؤال الأكثر إثارة للاهتمام هو ماذا سيحدث إذا تمكنت الحضارة فعلياً من الاستمرار مثلما تمكنت من ذلك على مدى القرون القليلة الماضية؟ ماذا نفعل إذا استمرت الحضارة في ضجيجها وصخبها؟". بعد بضعة أيام في نيوزيلندا، يستطيع المرء فهم لماذا يمكن للمرء أن يختار تجنُّب أحد السؤالين. فتحت السماء الزرقاء في صباح أحد الأيام في أوكلاند، اانطلقت طائرة هليكوبتر بأميركي يبلغ من العمر 38 عاماً يسمى جيم روهرستاف. بعد انتهاء مرحلته الجامعية، في ميشيغان، عمل روهرستاف في مجال الغولف، وبعد ذلك في مجال التسويق لنوادي الغولف الفاخرة والعقارات. روهرستاف المتفائل والواثق من نفسه، بعيونه الزرقاء اللامعة، انتقل إلى نيوزيلندا قبل عامين ونصف، مع زوجته وطفليه، لبيع العقارات لذوي الرصيد المالي الضخم. وقال إنَّه يريد أن "يبتعد عن كل قضايا العالم". روهرستاف، الذي يشارك في ملكية شركة "Legacy Partners"، التي تعمل في مجال السمسرة في الأعمال التجارية التي تخدم الزبائن رفيعي الثقافة أو الزبائن المتخصصي، أرادني أن أرى مشروع تارا إيتي، حيث التصميمات السكنية الفاخرة، ونادي الغولف الذي يروق في الغالب للأميركيين. جنحت طائرة الهليكوبتر شمالاً عبر الميناء، وتحركت على طول الساحل، عبر الغابات الخضراء والحقول خارج المدينة. وشاهدنا البحر من أعلى متلألئاً على اتساعٍ شاسع، تُمَوِّجه الرياح. هبطت الهليكوبتر في حديقة بجانب المساحات الخضراء. سوف يمتلك المجتمع الفاخر الجديد ثلاثة آلاف أفدنة من الكثبان الرملية وأراضي الغابات، وسبعة أميال من الساحل، لإقامة خمسة وعشرين منزلاً فقط. وبينما كنا نتجول في الموقع باستخدام سيارة لاند روفر، شدد روهرستاف على العيش في معزلٍ عن الناس، وقال: "من الخارج، لن ترى أي شيء. وهذا أفضل للناس وأفضل لنا، احتراماً للخصوصية". ومع اقترابنا من البحر، أوقف روهرستاف السيارة، وصعد على الكثبان. في حذائه الخاص بمثل هذه الجولات، سار روهرستاف على الكثبان وقادنا إلى داخل الرمال، حتى وصلنا إلى الشاطئ، الذي يمتد إلى الأفق خالياً من البشر. وبينما كانت تصطدم أمواج البحر بالشاطئ، بسط روهرستاف ذراعيه، والتف، وهو يضحك، قائلاً: "نرى أنَ هذا هو المكان المناسب للمستقبل". للمرة الأولى منذ أسابيع أو حتى أشهر، لم أكن أفكر في ترامب، أو أفكر في الكثير بشأن أي شيءٍ آخر. - هذا الموضوع مترجم عن مجلة The New Yorker الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط .
مشاركة :